لقلتّه وغرابته، وهو موجود فى الشعر على جهة الندرة، فقد حصل لك مما ذكرنا أن التشبيهات الواردة فى القرآن جامعة للأوصاف التامة المعتبرة فى البلاغة ليس فيها غرابة ولا بعد عن المألوف، والله أعلم بالصواب.
[النظر الثانى من علوم البيان فى الاستعارة]
اعلم أن الاستعارة من أشرف ما يعد فى القواعد المجازية، وأرسخها عرقا فيه، ولا خلاف بين علماء البيان فى كونها معدودة من المعانى المجازية، وإنما الخلاف إنما وقع فى قاعدة التشبيه، هل يعد من المجاز أولا، وفيه خلاف قد شرحناه، وأظهرنا وجه الحق فى ذلك، فأغنى عن تكريره، وقد أشرنا إلى بدائع أسراره من قبل، والذى نذكر ههنا هو كيفية وقوعها فى التنزيل، وهى واقعة على أضرب أربعة.
[الضرب الأول منها استعارة المحسوس للمحسوس]
وهذا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
فالمستعار هو النار، والمستعار له، هو الشيب بواسطة الانبساط والإسراع فالطرفان محسوسان كما ترى، والجامع بينهما محسوس، ولكنه فى النار أظهر، ويلحق بهذا الضرب قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١)
[الذاريات: ٤١] فالمستعار له هو الريح، والمستعار منه هو المرأة، والجامع بينهما عدم الإنتاج وظهور الأثر، فالطرفان ههنا حسيان، لكن الجامع بينهما أمر عقلى، بخلاف الأولى، فإن الجامع أمر حسى كما أوضحناه، ومن هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ
[يس: ٣٧] فالمستعار له هو ظهور النهار من الليل وظلمته، والمستعار منه هو ظهور المسلوخ من جلده، فالطرفان حسيان كما ترى، والجامع بينهما ما يعقل من ترتيب أحدهما على الآخر، ومنه قوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
[يونس: ٢٤] فالمستعار له هو الأرض المتزخرفة المتزينة بالنبات، والمستعار منه هو نباتها، وهما حسيان، والجامع بينهما الهلاك، وهو أمر معقول غير محسوس، ومن هذا قوله تعالى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
[الأنبياء: ١٥] فأصل الخمود للنار، فالمستعار منه هو للنار، والمستعار له هو القوم المهلكون، والجامع بينهما هو الهلاك، ونحو قوله تعالى: