المرتبة الثالثة ما يكون على جهة [الإفراط]
وهو كما ذكر تجاوز الحد فى المدح والذم وغيرهما من المقاصد، وهل يجوز استعماله فى الكلام أم لا، فيه مذهبان،
[المذهب الأول جواز استعماله،]
وقالوا ٧ ن أحسن الشعر أكذبه، بل أكذبه يكون أصدقه، ويصدّق ذلك الشعر قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٣٦)
[الشعراء: ٢٢٦] فظاهر الآية وإن كان واردا على جهة الذم لهم بدليل ما قبلها، لكنه محتمل للإباحة كأنه جعل ذلك من دأبهم ومن عادتهم، وأنه لا شاعر يوجد إلا وهذه صفته كما قال تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤)
[الشعراء: ٢٢٤] كأنه صار متابعة الغاوين لهم من جملة أوصافهم، وقد تهالك الشعراء فى ذلك وأتوا فيه بكل معجب مما يخجل الأذهان، ويصمّ الآذان لغرابته، ويحير الأفهام لشدة الإعجاب به.
[المذهب الثانى]
منعه آخرون، وزعموا أن الأمور لها حدود ونهايات مما يدخل تحت الإمكان، فأما ما كان من الأمور ما لا يدخل تحت الإمكان ولا يعقل وجوده فلا وجه له، والمذموم من الإفراط ما لا يدخل له فى الوجود على حال، والمختار عندنا جوازه على كل أحواله، لأنه إذا كان جائز الوجود فهو معجب لا محالة، لاشتماله على المبالغة فى المدائح وأنواع الذم، وإن لم يكن جائز الوجود فالإعجاب به أشد، والملاحة فيه أدخل، وقد ورد مثل ذلك فى كتاب الله تعالى قال الله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
[إبراهيم: ٤٦] . على قراءة من قرأ بفتح اللام فى تزول؛ لأنها هى الفارقة بين المؤكدة والنافية، وعلى هذا يكون معنى الآية وإن مكرهم لتزول منه الجبال، فأمّا من قرأ بكسر اللام فإنها هى المؤكدة للجحد، وليس فيها دلالة، ولا شك أن من المحال فى العقول أن المكر يزيل الجبال ويزحزحها عن مستقرّاتها، وهكذا قوله جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ
[الكهف: ٧٧] ، ومن المحال حصول الإرادة فى الجدار، وقوله تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
[الحج: ٤٠] ويستحيل الهدم فى الصلوات، وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ
[النحل: ١١٢] ويستحيل فى القرية أن تذوق، وقوله:
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
[يوسف: ١٨] ، والدم لا يكون كذبا إلى غير ذلك من