فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
ومن ذلك ما قاله ابن الرومى:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنه ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما هو لاق من أذاها يهدد
ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى:
أجزنى إذا أنشدت مدحا فإنما ... بشعرى أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت بعد صوتى فإننى ... أنا الصائح المحكى والآخر الصدى
فانظر إلى ما أودعه فى هذين البيتين من المديح ما أرقه، ومن المعنى ما أدقه، ومن ذلك ما قاله ابن الرومى أيضا.
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
ومن دقيق ما يورد فيما نحن بصدده قول بعض الشعراء:
بأبى غزال غازلته مقلتى ... بين الغوير وبين شطى بارق
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق الناشق
وضممته ضم الكمى لسيفه ... وذؤابتاه حمائل فى عاتقى
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقى
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق
ومن الفائق الرائق ما قاله أبو الطيب يمدح سيف الدولة:
صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريته فى وجهه غمم
فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
هذا وأمثاله من بدائع أبى الطيب وعجائبه فى معانيه التى فاق بها على نظرائه، وامتاز فيها على أقرانه من الشعراء، ومن جيد ما يقال فى هذا المعنى ما قاله بعض المغاربة:
غدرت به زرق الأسنة بعد ما ... قد كن طوع يمينه وشماله
فليحذر البدر المنير نجومه ... إذ بان غدر مثالها بمثاله
فهذا وأمثاله من سحريات الشعر وعجائبه، ولنقتصر منه على هذا القدر.