لا غير من غير حاجة إلى اللفظ لا على جهة القصد، ولا على جهة التبعية.
وثالثها: أن الفصاحة عبارة عن الألفاظ باعتبار دلالتها على مسمياتها المعنوية، وهذا شىء حكاه ابن الخطيب فى كتاب النهاية ولم يعزه إلى أحد من علماء البيان. وحاصل مذهبهم أن الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا، فلا هى من أوصاف اللفظ كما زعمه ابن الأثير على الخصوص، ولا هى من أوصاف المعانى على الخصوص كما حكيناه عن ابن الخطيب.
ورابعها: أن تكون الفصاحة مقولة على الأمرين جميعا، فتكون مفيدة لهما جميعا فيكون الأمران جميعا أعنى المعانى والألفاظ من مسمى قولنا: فصاحة، وهذا المذهب يخالف المذهب الثالث، فإن هؤلاء جعلوا اللفظ والمعنى من مدلول لفظ الفصاحة. والذين قبلهم جعلوا اللفظ هو مسمى الفصاحة، لكن اعتبار المعنى على جهة الضم والتبعية لا غير.
فهذا تقرير مذاهب العلماء فى مدلول لفظ الفصاحة، وفائدة إطلاقه.
والمختار عندنا تفصيل نشير إليه، وهو أن الفصاحة من عوارض الألفاظ، لكن ليس بالإضافة إلى مطلق الألفاظ فقط، ولكن بالإضافة إلى دلالتها على معانيها، فتكون الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا مطلق الألفاظ ودلالتها على ما تدل عليه من معانيها المفردة والمركبة، وهذا المذهب هو الذى حكاه ابن الخطيب عن بعض علماء البيان. ويدل على ما قلناه وجوه ثلاثة:
أولها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من البيان لسحرا» والبيان هو الفصاحة، لأن البيان هو الظهور، وذلك لا يستعمل إلا فى الألفاظ، ولا بد من اعتبار دلالتها على معانيها، لأنا لو لم نعتبر ذلك لكانت الألفاظ مما يمجها السمع، وينبو عنها الطبع، فضلا عن أن تكون سحرا. فإذن لا بد من اعتبار الأمرين فى كون الكلام فصيحا، ومراده عليه السلام بقوله «لسحرا» يعنى أنه يحير العقول فى حسنه ورونقه، ودقة معانيه، وعن هذا قال بعضهم:
فصاحة المنطق سحر الألباب.
وثانيها: أنهم يقولون فى الوصف كلام فصيح، ومعنى بليغ، ولا يقولون معنى فصيح، فدل ذلك على أن الفصاحة من متعلقات الألفاظ، وأن فصاحته إنما كانت باعتبار ما دل عليه من حسن المعنى ورشاقته. وفى هذا دلالة على وجوب اعتبار الأمرين فى فصيح الكلام كما قلناه.