وثالثها: أنا نراهم فى أساليب كلامهم يفضلون لفظة على لفظة، ويؤثرون كلمة على كلمة، مع اتفاقهما فى المعنى، وما ذاك إلا لأن إحداهما أفصح من الأخرى، فدل ذلك على أن تعلق الفصاحة إنما هو بالألفاظ العذبة، والكلم الطيبة ألا ترى أنهم استحسنوا لفظ الديمة، والمزنة، واستقبحوا لفظ البعاق لما فى المزنة، والديمة، من الرقة واللطافة ولما فى البعاق، من الغلظ والبشاعة. ومما أغرق فى اللذة والسلاسة قوله تعالى فى وصف خروج القطر من السحاب: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
[النور: ٤٣] فأين هذا من قول امرىء القيس فى هذا المعنى:
فألقى بصحراء العبيط بعاعه
فانظر ما بين الودق والبعاع فاختصاص الودق بالرقة واللطافة عما تضمنه، البعاع، من الغلظ والبشاعة دلالة ظاهرة على ما قلناه من أن الفصاحة راجعة إلى اللفظ لأجل دلالته على معناه.
فأما من زعم أن الفصاحة متعلقها اللفظ لا غير، فقد أبعد، فإن الالفاظ لا ذوق لها ولا يمكن الإصغاء إلى سماعها إلا لأجل دلالتها على معانيها، فأما إذا خلت عن الدلالة عليها فلا وقع لها بحال، وغالب ظنى أنه لا بد له من اعتبار المعنى، خلا أنه يكون ضمنا وتبعا للألفاظ لا محالة.
وأبعد من هذا من زعم أن متعلق الفصاحة فى المعانى فقط، كما حكيناه عن ابن الخطيب فإن المعانى إنما توصف بالبلاغة، فأما الفصاحة فإنها من صفات الألفاظ كما مر بيانه. وعلى الجملة فإن أراد أنه لا بد من اعتبار الأمرين جميعا، اللفظ والمعنى، على أن إطلاق الفصاحة على أحدهما ويكون الثانى تبعا فالخلاف لفظى، وإن أراد أنّ إطلاق اسم الفصاحة إنما يكون على أحدهما على انفراده، فهو خطأ كما أسلفنا تقريره. فهذا ما أردنا ذكره فيما يخص كل واحد منهما.