«أحبب حبيبك هونا مّا عسى أن يكون بغيضك يوما مّا. وأبغض بغيضك هونا مّا عسى أن يكون حبيبك يوما مّا» فهذا من رشيق الإبهام وبديعه، ومن عجيب أمره، ودقيق سره، أنه أمره بالاعتدال فى حالتى الحب والبغض، ومجانبة الإفراط والتفريط، فقال: أحبب حبيبك على الهون من غير إفراط فى حبه، فلعلك أن ترجع عن ذلك فى بعض الأيام وإن قل، فأتى بالهون منكرا مبهما وباليوم منكرا مبهما، ليدل بهما على شدة المبالغة فى المفقود، وإنما قيد الأول بالهون والثانى باليوم على جهة الإبهام ولم يعكس الأمر فيهما؛ لأن الأول موجه على جهة الأمر، بخلاف الثانى، فلهذا أمره بالتهوين فى مبدأ الأمر، حبا كان أو بغضا من غير تهالك فيهما مخافة أن يبدو له خلاف ذلك فيصعب تداركه ويعظم تلافيه، فلا جرم قيد الأمر بالهون، لما كان ملابسا له، وقيد الرجوع باليوم، لما كان عائدا إليه، ولو عكس لم يعط هذا المعنى، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم:«خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا تجاحفت قريش ملكها فاتركوه» . وفى حديث آخر:«خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا تجاحفت قريش الملك فلا تأخذوه فإنما هو رشوة» فالإبهام هو قوله: «ما كان عطاء» ، لاشتماله على مقاصد عظيمة، وفى هذا القدر كفاية من التمثيل بالكلام النبوى.
ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى الإبهام قوله عليه السلام: أحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره. وفى هذا الكلام من الإعجاب ما لا يطلع عليه إلا الخواص، ولا يحيط بأسراره إلا كل غواص ويحار السامع له من أى شىء يعجب منه، هل من فصاحة لفظه؛ أو بلاغة معناه؛ أو من حسن سبكه أو من دقة مغزاه، ومنه قوله عليه السلام عند قراءة: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١)
[التكاثر: ١] يا مراما ما أبعده، وزورا ما أغفله. فانظر إلى مطلع هذا الوعظ ما فيه من الزجر والمبالغة فى الموعظة وقرع القلوب وإيقاظها من الغفلة، ومنه قوله عليه السلام: إنّ الرجل ليحزن على ما لم يكن ليدركه، ويفرح بما لم يكن ليفوته؛ فهذا أيضا من عظيم الإبهام، ومن جيد الإبهام قولهم: لو رأيت أمير المؤمنين وقد اعتقل القناة يجدل الأبطال، ويجول فى معترك القتال أىّ مجال. فهذا عموم وإبهام معط للبلاغة، وإن لم يكن فيه آلة الإبهام، فأما الأبيات الشعرية فكقول البحترى: