المنع، والتخلية، ولو علموا ذلك لوجب أن يتذاكروا فى أى حال هذا المعجز على جهة التعجب، ولو تذاكروه لظهر وانتشر على حد التواتر، فلما لم يكن ذلك دل على بطلان مذاهبهم فى الصرفة لا يقال: إنه لا نزاع فى أن العرب كانوا عالمين بتعذر المعارضة عليهم، وأن ذلك خارج عن العادة المألوفة لهم، ولكنا نقول من أين يلزم أنه يجب أن يتذاكروا ذلك ويظهروه، حتى يبلغ حد التواتر، بل الواجب خلاف ذلك، لأنا نعلم حرص القوم على إبطال دعواه، وعلى تزييف ما جاء به من الأدلة، فاعترافهم بهذا العجز من أبلغ الأشياء فى تقرير حجته، فكيف يمكن أن يقال بأن الحريص على إخفاء حجة خصمه يجب عليه الاعتراف بأبلغ الأشياء فى تقرير حجته، وهو إظهاره وإشهاره، لأنا نقول هذا فاسد، فإن المشهور فيما بين العوام فضلا عن دهاة العرب، أن بعض من تعذر عليه بعض ما كان مقدورا له، فإنه لا يتمالك فى إظهار هذه الأعجوبة والتحدث بها، ولا يخفى دون هذه القضية، فضلا عنها، فكان من حقهم أن يقولوا: إن كل واحد منا يقدر على هذه الفصاحة، ولكن صار ذلك الآن متعذرا علينا، لأنك سحرته عن الإتيان بمثله، فلما لم يقولوا ذلك، دل على فسادها.
البرهان الثانى لو كان الوجه فى إعجازه هو الصرفة كما زعموه، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: إن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة، فإن المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنه يدهش عقله ويحير لبه، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف، وحسن مواقع التصريف فى كل موعظة، وحكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك، ولهذا فإن نبيا لو قال:
إن معجزتى أن أضع هذه الرمانة فى كفى، وأنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن تعجب القوم من وضع الرمانة فى كفه، بل كان من أجل تعذره عليهم، مع أنه كان مألوفا لهم ومقدورا عليه من جهتهم، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دل على فساد هذه المقالة.
البرهان الثالث الرجع بالصرفة التى زعموها، وهو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة فى مدة يسيرة، يدل على نقصان العقل، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره، فلو أصبح فى بعض