أنى كنت فى ذلك كمن شد خلّة، واستشفى من علة بعلة، فما ظنك بمن يصطلى نار الأشواق، وقد قنع من أخيه بالأوراق، فضنّ عليه بالأوراق. فبينا هو يتكلم فى وصف البرد إذ خرج إلى وصف الأشواق. ومما ورد فى التخلص من المنظوم قول أبى الطيب المتنبى فى بعض قصائد:
خليلىّ إنى لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومنّى القصائد
فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة ... ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد «١»
فانظر كيف تخلص من الغزل إلى المديح بأحسن خلاص وأعجبه. كما ترى، ومن عجيب ما جاء به فى كلامه هذا، هو أنه جمع بين مدح نفسه ومدح سيف الدولة فى بيت واحد، وهو من بدائعه المأثورة عنه فى غير موضع، ومن ذلك ما قاله أبو تمام فى بعض قصائده:
خلق أطلّ من الربيع كأنّه ... خلق الإمام وهديه المتيسّر
فى الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الشّباب الغضّ شرح يزهر
ينسى الرياض وما يروّض فعله ... أبدا على مرّ الليالى يذكر
فهذا وأمثاله من لطائف التخليصات وأعجبها، والشعراء يتفاوتون فى هذا الباب، فربما اختص بعض الشعراء بالإجادة فى شعره من جزالة ألفاظه، ودقة معانيه، لكنه مع هذا لم يفق فى التخليص كما فاق غيره من الشعراء كما يحكى عن البحترى، فإن مكانه فى الشعراء لا يجهل، وشعره هو السهل الممتنع الذى تراه كالشمس قريبا ضوءها، بعيدا مكانها، أو يكون كالقناة، لينا مسّها، خشنا سنانها، وقالوا أيضا إنه فى الحقيقة قينة الشعراء فى الإطراب، وعنقاؤهم فى الإغراب، ومع ما حكيناه فإنه لم يجد فى التخليص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابا على وجه لا ملائمة بينه وبين الأول، وله مواضع قليلة أحسن فيها التخلص، لكنها حقيرة بالإضافة إلى ما أساء فيها الخلاص. ومن أعجب ما يذكر فى مثال التخلص ما حكاه ابن الأثير: أن قرواشا الملقب بشرف الدولة ملك العرب صاحب الموصل، اتفق أنه كان جالسا مع ندمائه فى ليلة من ليالى الشتاء، وفى جملتهم رجال منهم البرقعيدى وكان مغنيا وسليمان بن فهد، وكان وزيرا، وأبو جابر، وكان حاجبا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو هؤلاء ويمدحه فأنشد هذه الأبيات ارتجالا قال فيها: