[النحل: ١١٢] فالخفض والذوق استعارتان بليغتان فلو ذهب بجعله تشبيها قائلا، اخفض لهما جانبك الذى هو كالجناح، وأذاقها الله الجوع والخوف اللذين هما كاللباس، كان من الركة بمكان، وهكذا لو قلت فى نحو قول الشاعر:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد
فما هذا حاله من رقيق الاستعارة وعجيبها فلو أظهرت التشبيه فيه وقلت فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس، وسقت خدا كالورد، وعضت أنامل مخضوبة كالعناب بأسنان كالبرد، لكان غثا من الكلام فضلا عن أن يكون بليغا.
القسم الثانى أن يكون الكلام متسقا مع ظهور أداة التشبيه وهذا كقولنا: زيد الأسد، فإنك لو قلت كالأسد كان الكلام سديدا وكقول البحترى:
إذا سفرت أضاءت شمس دجن ... ومالت فى التعطف غصن بان
فإنك لو قلت سفرت مثل ضوء الشمس ومالت فى التعطف مثل غصن البان، لم يخرج الكلام عن بلاغته، وعن هذا قيل إن قولنا زيد أسد، الأحق أن يكون من باب الاستعارة، وأن يكون قولنا زيد الأسد، أن يكون من باب التشبيه، لأن الكاف يحسن إظهارها فى المعرف باللام دون المنكر، والتفرقة بينهما أن اللام فى الأسد للجنس، فكأنك قلت زيد يشبه هذه الحقيقة المخصوصة من الحيوان، بخلاف المنكر، فإنها دالة على واحد من هذه الحقيقة، فإذا قلت زيد يشبه واحدا من هذه الحقيقة، فلا مبالغة فيه فافترقا، وقد قرر الزمخشرى فى تفسيره أن قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
[البقرة: ٧] يمكن جعله من باب الاستعارة، ويمكن جعله من باب التشبيه، مشيرا إلى ما ذكرنا من التلخيص فى ظهور آلة التشبيه وإضماره، كما مر، والله أعلم، فينحل من مجموع كلامنا أن الاستعارة لا تفتقر إلى أداة التشبيه وأن التشبيه لابد فيه من ذكر الأداة، وهى الكاف وكأن، ومثل، ونحو، وما شاكلها، فكلما ازداد التشبيه خفاء ازدادت الاستعارة حسنا ورشاقة، وكلما ظهر معنى التشبيه تعفت آثار الاستعارة، وامحت رسومها وأعلامها، واتضح أمر المشابهة كما تشهد له الأمثلة التى ذكرناها من قبل ويشهد له ما نذكره الآن بمعونة الله تعالى.