[النحل: ١١٢] فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من المجازات البليغة والاستعارات الرشيقة، فقد تضمنت استعارات أربعا، الأولى منها القرية للأهل، والثانية استعارة الذوق فى اللباس، والثالثة استعارة اللباس فى الجوع، والرابعة استعارة اللباس فى الخوف، فهذه الاستعارات كلها متلائمة، وفيها من التناسب ما لا خفاء به، فلما ذكر الأمن، والرغد من الرزق أردفه بما يلائمه من الجوع، والخوف، والإذاقة، لما فى ذلك من البلاغة، وهذا النوع يسمى الاستعارة المرشحة، وهو أن يأتى بالاستعارة عقيب الاستعارة لها بالأولى علاقة ومناسبة، وهذا كقوله تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى
[البقرة: ١٦] فلما استعار الشراء عقبه بذكر الربح لما كان مناسبا له فى غاية الملائمة لما سبق، وقد زعم عبد الله بن سيار الخفاجى إنكار الاستعارة المرشحة، وقال إن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أبعد الاستعارات، وأنكر عليه الآمدى هذه المقالة، وما قاله الآمدى هو المعول عليه، فإن هذه الاستعارة المرشحة من أعجب الاستعارات وأغربها، واستظرفها كل محصل من علماء البيان وسنوضحها فى التقاسيم، ونورد الشاهد عليها بمعونة الله تعالى.
ومن ذلك قوله تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
[إبراهيم: ١] فذكر الظلمات والنور إنما كان على جهة الاستعارة للكفر والإيمان، والضلالة والهدى كأنه قال لتخرج الناس من الكفر والضلال اللذين هما كالظلمة إلى الإيمان والهدى اللذين هما كالنور، والمستعار له مطوى الذكر، فإذا أظهر كان من قبيل صريح التشبيه كما مثلناه ومن هذا قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ
[إبراهيم: ٤٦] وإنما يكون استعارة فى قراءة من قرأ لتزول بالنصب على تقدير (ان) بمعنى (ما) والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، واستعار الجبال لما أتى به الرسول صلى الله عليه وآله، من المعجزات الباهرة والأعلام الواضحة النيرة على نبوته، فالمعنى وما كان خدعهم وتكذيبهم لتزول منه هذه الأمور المستقرة الثابتة التى هى كالجبال فى الرسوخ والاستقرار، فأما على قراءة من قرأ لتزول منه بالرفع فى: تزول، فلا وجه للاستعارة فيه للجبال بل تكون باقية على