ونهاية الأمر فى تقدير التشبيه فيها، أن يقال: إن هجاءك لهذه القبيلة لا يؤثر كما أن بولك فى مجتمع البحرين لا يجدى ولا يكون نافعا، وأنت إذا قدرت التشبيه فيما ذكرناه، فقد عزلت هذه الاستعارة عن سلطانها، ووضعتها عن حلولها فى رفيع مكانها، ومن هذا قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء: ٢٤] فإن تقدير التشبيه يخرجه عن رونق الاستعارة ويسلبه منها ثوب الإمارة، ومن هذا قول الفرزدق أيضا:
قوارص تأتينى فيحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
شبه ما يأتيه من الشتائم والأذايا بهذه القوارص التى تؤذى الجسم من البعوض، والنمل، والبق، فتقدير التشبيه فيما هذا حاله يدق كما ذكرناه فى غيره. ومنه قول البحترى أيضا فى التعزية بولد:
تعز فإن السيف يمضى وإن وهت ... حمائله عنه وخلاه قائمه
فما هذه صورته فهو من فن الاستعارة، وإنما يقدر التشبيه فيه بلطف واحتيال، فهاتان الصورتان الأحق بهما أنهما من باب الاستعارة كليهما، ولا حاجة بنا إلى جعلهما من باب التشبيه، فمن صيرهما منه فإنما هو متكلف فيما جاء به.
الدرجة الثالثة للصورة الثانية والثالثة، فإنها متوسطة بين الدرجتين، فلا هى تقرب من التشبيه كالصورة الأولى، ولا هى بعيدة من التشبيه كالرابعة والخامسة، والمثال فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم:«الكمأة جدرى الأرض» وقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى صفة الدين والإسلام «فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مشرق المنار عزيز السلطان» فأنت إذا أردت إظهار التشبيه فيما هذا حاله قلت فى الخبر النبوى الكمأة للأرض كالجدرى، وهكذا تقول فى كلام أمير المؤمنين أركانه كأوثق ما يكون من الأركان، وبنيانه كأرفع ما يكون من الأبنية، وبرهانه كأنور ما يكون، إلى غير ذلك من التقدير، ومن هذا قول البحترى:
غمام سحاب لا يغب له حيا ... ومسعر حرب لا يضيع له وتر
فإذا قدرت فى هذا أداة التشبيه فإنك تقول: سماح كالغمام، وحرب هولها كالمسعر، وهو موقد النار، وكقول أبى تمام:
أى مرعى عين ووادى نسيب ... لحبته الأيام فى ملحوب
ومراد أبى تمام أن يصف هذا الموضع بأنه كان حسنا فأزالت الأيام حسنه وأنه كان