أوجبتها للأجنة فى بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة بعد ذلك، تحمل فى القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا:
إذا جالت الحرب فى مأزق ... تصافح فيها المنايا النفوسا
أتقيمون، أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار وأبلى الاجترار المكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل:
لعلك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا فى مأذق الحرب تمطر
فقال امرؤ القيس: لا والله، بل أستعذبه، فرويدا تنفرج لك دجاها عن فرسان كندة، وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بى أولى إذ كنت نازلا بربعى ولكنك قلت فأجبت، فقال له قبيصة ما نتوقع أكثر من المعاتبة والإعتاب.
فعليك إعمال فكرك فى هذا الكلام، ما أوقعه فى إصابة المعانى وأسلس ألفاظه، ومن ذلك ما قاله ابن الأثير فإنه أبدع فى نظم المنثور، وأحسن فى تأليف العقود من الدرر والشذور، ومن عجيب كلامه أنه يكاد يعول فى نظم كلامه على كتاب الله تعالى فيجعله كالأساس للبناء، قال فى وصف القلم وقد أوحى الله إلى قلمه ما أوحى، وإلى النحل، غير أنها تأوى إلى المكان الوعر، وهو يأوى إلى البيان السهل، ومن شأنه أن يجتنى من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام، وأين ما تبينه كثافة الخشب، مما تبينه لطافة المعنى، ولا تستوى نضارة هذا الثمر، وهذا الثمر، ولا طيب هذا المجنىّ وهذا المجنى، وقد أرخص ما يكثر وجوده، فيذهب فى لهوات الأفواه، وأغلى ما يعز وجوده، فيبقى خالدا على ألسنة الرواة.
فانظر كيف جعل الآية أصلا وقاعدة لمغزاه، ومهادا فى لفظه ومعناه. وقال فى وصف كاتب وهو إذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه نجوم كلمه، لم يقعد لها شيطان بلاغة مقعدا، إلا وجد له شهابا مرصدا، فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطوية عن كل قائف، فقرر ما ذكره على ما ذكره فى سورة الجن، ثم قال له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تهمله، ثم أتت به قومها تحمله، ولم نعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله، فشيد ما ذكره على هاتين الآيتين، الأولى فى سورة الجن، والثانية فى سورة مريم، ومن ثم كان ارتفاع قدره، واستتمام نور بدره، ومن ذلك ما ذكره الشيخ العابد يحيى بن نباتة فى خطبة له، وهو قمر يشار إليه بالأكف فى البلاغة،