ما لى رأيت ترابكم يبس الثرى ... ما لى أرى أطوادكم تتهدم
فجعل يبس الثرى، كناية عن تنكر ذات البين، يقال يبس الثرى بينى وبين فلان، إذا تنكر الود الذى بينك وبينه، وهكذا تهدم الأطواد فإنه كناية، إما عن موت الرؤساء، وإما عن خفة الحلوم وطيش العقول، ومن ذلك قول أبى نواس يكنى به عن امرأة:
تحاول أن يقوم أبو زياد ... ودون قيامه شيب الغراب
أتت بجرابها تكتال فيه ... فعادت وهى فارغة الجراب
فقوله: «أتت بجرابها تكتال فيه» من الكناية اللطيفة، ومن هذا قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... فى قبة نصبت على ابن الحشرج
فأراد أن يقول: إن السماحة والمروءة والندى مجموعة فيه، أو مقصورة عليه، أو مختصة به، لكنه عدل إلى ما هو أرق من ذلك، وأدخل فى الإعجاب والمدح، فجعلها فى «قبة» وكنى به عن كونه فيها وأنه متمكن فى الندى، منسدل عليه كالقبة المضروبة على كل ما تحويه، ومن ذلك ما قاله بعض الأذكياء فى الكناية:
وما يك فى من عيب فإنى ... جبان الكلب مهزول الفصيل
فكنى عن كرم نفسه، وكثرة قراه للضيفان، بجبن الكلب، وهزال الفصيل، ولو صرح لقال: إن جنابى مأهول، وكلبى مؤدب، لا ينكر الضيف، ولا يهر فى وجوههم، وإنى أنحر النوق، فأدع فصالها هزلى، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم
وهكذا ورد قول أبى نواس:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
فتوصل إلى إثبات الصفة للممدوح، بإثباتها فى مكانه، وإلى لزومها له، بلزومه الموضع الذى يحله. ومن هذا قول حسان بن ثابت:
بنى المجد بيتا فاستقرت عماده ... علينا فأعيا الناس أن يتحولا
وقول البحترى:
ظللنا نعود المجد من وعكك الذى ... وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد
فكنى باعتلال عضو منه، عن اعتلال عضو من المجد، ومن هذا ما قاله البحترى أيضا: