فيها، وهكذا فإنك تفصل بين أن تقول: إنى أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر، وبين أن تتبعه بقول من قال:
لا تعجبنك الثياب والصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
فى خشب السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر
فإنك تجد فرقا بين الأمرين، وهكذا حال غيره من الأمثلة والتشبيهات، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن الكناية لها فى البلاغة موقع عظيم فإنها تفيد الألفاظ جمالا، وتكسب المعانى ديباجة وكمالا وتحرك النفوس إلى عملها، وتدعو القلوب إلى فهمها، فإن أوقعتها فى المدح كانت أرفع وأحسن، وفى نفس الممدوح أوقع وأمكن، وإن صدرتها للذم كانت آلم وأوجع وإلى ذكر فضائح المذموم أسرع وأخضع، وإن أدخلتها من أجل الحجاج كان البرهان لها أوضح وأنور، والسلطان بها أقدر وأقهر، والإقحام بها أشهر، والتسلط أعظم وأبهر، وإن وقعت فى الافتخار كان ضياؤه أسطع، ومناره أعلى وأرفع، وإن كانت موجهة للاعتذار فهى إلى سل سخائم القلوب أعجل وأقرب، وبوحر الصدور وفل غرب غضبها أذهب، وإن صدرت للاتعاظ كانت فى المبالغة فى النصيحة أنجع، ولمرض القلوب أشفى وأنقع، وإن أردت بها جانب الإعتاب والرضا، كانت بطيب الصحبة ولين العريكة أظفر، وعلى الوفاء بلوازم الألفة أوفر، فهى كما ترى واقعة من البلاغة فى أعلى المراتب، وحائزة من الفصاحة أعظم المناقب وقد نجز غرضنا فيها بحمد الله تعالى.
بحمده تعالى قد تم الجزء الأول من كتاب الطراز فى علوم حقائق الإعجاز.
ويليه الجزء الثانى وأوله القاعدة الرابعة من قواعد المجاز