فلهذا ميز بين الجملتين مشيرا إلى ما ذكرناه، وقوله تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
[آل عمران: ٧٧] فإنما أورد الضمير دلالة على تأكيد تحققهم للصدق، ومع ذلك يقولون على الله الكذب وهم يعلمون كونه كذبا، أو هم يعلمون أنه لا يقوله، وقوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ
[الزخرف: ٧٧] ونحو قوله تعالى فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ
[الصافات: ٧٠] وأمثال ذلك فى كتاب الله أكثر من أن يحصى، وكما وجب تصدير الاسم فى الجملة الإثباتية من أجل المبالغة وجب تقديمه فى الجملة السلبية أيضا، فتقول: أنت لا تحسن هذا، وأنت لا تقول ذلك، ولو قلت: لا تحسن أنت هذا، ولا يقول ذلك إلا أنت، فأتت تلك القوة عن الكلام، ومن هذا قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ
[المؤمنون: ٥٩] وقوله تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
[يس: ٧] وقوله تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ
[القصص: ٦٦] وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
[الزخرف: ٦٦] ومن الأبيات الشعرية ما يدل على ما نحن فيه كقوله «١» :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... حريصان ما اسطاعا عليه كلاهما
وقال بعضهم «٢» :
والشّيب إن يظهر فإنّ وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس
لم ينتقص منّى المشيب قلامة ... ولما بقى منّى ألبّ وأكيس
فلما كان المشيب يذم فى أكثر أحواله أتى باللام المؤكدة فى قوله:(ولما بقى) وجعل الجملة الاسمية عوضا من الفعلية، مبالغة فى ذلك وتأكيدا كما مر بيانه، وقال بعض أهل الحماسة «٣» :
إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدوّ الأصيد