للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم عطف يَشْفِينِ

بالفاء؛ لأن الشفاء يتعقب المرض، وتنبيها على عظم المنة بالعافية بعد المرض من غير تراخ، ثم عطف الإحياء بعد الإماتة بثم؛ لأن الإحياء بعد الموت إنما يكون بمهلة وتراخ، ولو عطفت الجمل فى هذه الآية بعضها على بعض بالواو لتم المعنى المقصود، ولكن الذى ورد به التنزيل أدخل فى المعنى وأعجب فى النظم، وأليق ببلاغة القرآن وفصاحته، ومن ذلك قوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)

[عبس: ١٧- ٢٢] فانظر إلى نظام هذه الآية، ما أدخله فى الإعجاب، فجاء قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ

من غير واو؛ لأنها واردة على جهة التفسير لقوله: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)

والخلق هو الإيجاد، خلافا لما يحكى عن المعتزلة من أنه التقدير؛ لأنه لو كان التقدير لكان قوله: فَقَدَّرَهُ (١٩)

يكون تكريرا لا حاجة إليه، وهكذا قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً

[الفرقان:

٢] يكون مكررا على مقالتهم، وقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)

[القمر: ٤٩] فهذه كلها مع غيرها تبطل كون الخلق بمعنى التقدير، وهذا عارض، فعطف قوله: فَقَدَّرَهُ

بالفاء تنبيها على أن التقدير مرتب على الخلق، وعلى عدم التراخى بينهما، وعطف السبيل بثم، لما بين الخلق والهداية من التراخى والمهلة الكثيرة، ثم عطف الإماتة بثم، إشارة إلى التراخى بينهما بأزمنة طويلة، ثم عطف الإقبار بالفاء، إذ لا مهلة هناك، ثم عطف الإنشار بثم، لما يكون هناك من التراخى باللّبث فى الأرض أزمنة متطاولة، فأكرم بهذه اللطائف الشريفة، والمعانى الرائقة التى لا تزداد على طول البحث وكثرة التنقير إلا غوصا على الأسرار ودخولا فى التحقيق، ولله سر التنزيل، ما أحواه للغرائب، وأجمعه للأسرار والعجائب. ومن ذلك قوله تعالى فى بديع خلقة الإنسان: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ

[المؤمنون: ١٢- ١٤] فتأمل هذه الآية كيف بدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثانى الذى هو خلق التناسل، عطفه بثم، لما بينهما من

<<  <  ج: ص:  >  >>