للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجد فى زمان لم يوجد فيه الابن، فهذه المعانى كلها عقلية، فما كان منها متقدما على غيره بأحد هذه الاعتبارات كان فى العبارة كذلك إتباعا للمعانى بالألفاظ، ومن التقدم بالزمان قوله تعالى: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ

[العنكبوت: ٣٨] وهكذا قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ

[الأنعام: ١] فإن الظلمة سابقة على النور؛ لأن الحق أن الظلمة هى عدم النور، وليست أمرا ثبوتيّا، فإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا شك أن عدم الشىء سابق على وجوده، لأن العدم بلا أول والوجود يتلوه، فلهذا كان تقدم الظّلم على الأنوار، من باب تقدم الأزمنة، وهكذا القول فى الظلمة المعنوية؛ لأنها إذا أريد بها الجهل والكفر فإنها تكون سابقة على النور المعنوىّ، وهو العلم، والإسلام، ويؤيد ما قلناه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ

[النحل: ٧٨] فانتفاء العلم ظلمة معنوية مجازية، فهى متقدمة بالزمان على نور الإدراكات الخمسة كلها، وقوله تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ

[الزمر: ٦] يريد ظلمة البطن والرحم والمشيمة.

ومن التقدم بالذات قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ

[النساء: ٣] وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ

[المجادلة: ٧] وهكذا القول فى مراتب الأعداد كلها، فإن كل واحدة منها سابقة على ما بعدها من المراتب سبقا ذاتيا، ومن التقدم بالسببية قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

[الحشر: ٢٤] ؛ لأن العزيز هو الغالب، ولأنه تعالى لما عز فى ذاته بالغلبة حكم على كل شىء، فلم يخرج عن حكمة ملكه خارج، ونحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ

[البقرة: ٢٢٢] فالتوبة هى سبب التطهير من دنس الآثام كلها. وقوله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ

[الجاثية: ٧] فالإفك يكون سببا للإثم، فلهذا قدم عليه، فأما قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

[الحج: ٢٧] فتقديم رِجالًا

فيه وجهان؛ أحدهما أن يكون تقدما بالرتبة، فإن الغالب أن الرجالة إنما يأتون من الأمكنة القريبة، والركبان يأتون من الأمكنة البعيدة، فلهذا قدم الرجالة، وثانيهما أن يكون تقديم الرجالة لأجل الفضل، فإن من حج راجلا أفضل ممن حج راكبا، فلهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما: وددت لو حججت راجلا، فإن الله قدم الرجالة على الركبان فى القرآن. فدل ذلك على أنه فهم من التقديم فى الآية الفضل، فالمعنيان محتملان فى الآية كما

<<  <  ج: ص:  >  >>