للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ

[النور: ٤٥] وإنما قدم الماشى على بطنه؛ لأنه لما صدر الآية بالإخبار على جهة التمدح بأنه خالق لكل دابة من المآء، فقدم فى الذكر من يمشى على بطنه؛ لأنه أدل على باهر القدرة وعجيب الصنعة من غيره، وثنى بمن يمشى منهم على رجلين؛ لأنه أدخل فى الاقتدار ممن يمشى على أربع، لأجل كثرة آلات المشى، فيكون التقديم على هذا من باب تقديم الأعجب فى القدرة فالأعجب، ولو عكس الأمر فى هذا فقدم الماشى على الأربع ثم ثنى بالماشى على رجلين؛ ثم ختمه بالماشى على بطنه لكان له وجه فى الحسن، وعلى هذا يكون تقديمه من باب الأفضل فالأفضل، لا يقال فأراه لم يقتصر على قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ

[النور: ٤٥] فيكون فيه وفاء بذكر الصنفين ويكون ما عداهما مندرجا تحتهما فيدخل تحت الأول من لا رجل له من حيوان البر والبحر، ويدخل تحت الثانى من يمشى على أكثر من رجلين؛ ولا حاجة إلى ذكر من يمشى على أربع لاندراجه تحت ما قبله، أو كان قد ذكر الأربع بذكر ما فوقها، فلم خص هذه الأنواع الثلاثة، لأنا نقول: إنما ذكر من يمشى على بطنه ولا بد من ذكره لما فيه من باهر القدرة، ولأنه غير مندرج تحت غيره، وخص من يمشى على رجلين؛ لأن من جملتهم بنى آدم، فخصهم بالذكر لما لهم من مزيد الشرف على سائر الحيوانات، ثم نبه بمن يمشى على أربع على سائر الحيوانات كلها، ولم يذكر ما زاد على ذلك؛ إما لأنه قليل بالإضافة إلى ذوات الأربع، وإما لأنه يدخل بطريق الأولى لأنه إذا جاز أن يمشى على أربع فمشيه على أكثر منها أدخل فى القدرة والجواز.

ومن ذلك قوله تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ

[يونس: ٦١] وقال فى آية أخرى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ

[سبأ: ٣] والتفرقة بينهما هو أنه أراد فى الثانية ذكر إحاطة علمه وشموله لكل المعلومات الجزئية والكلية، فلا جرم صدر بالسموات قبل الأرض لاشتمالها على لطائف الحكمة وعجائب الصنعة ومحكم التأليف وكثرة المعلومات، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ

[الأنعام: ٧٥] وأما الأولى فإنها كانت مسوقة من شأن أهل الأرض كما قال تعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً

[يونس: ٦١] فقدم ذكر الأرض تنبيها

<<  <  ج: ص:  >  >>