بعضه فلا تناقض هناك، لاختلاف تعلّقهما بما يتعلقان به، وإنما تقع المناقضة إذا كان متعلقهما واحدا، وعلى هذا يحمل بيت أبى الطيب المتنبى «١» :
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن
فالنفى واقع على «كل» المفيد للشمول، وعلى هذا يجوز أن يكون الإنسان مدركا بعض متمناه، فلا مناقضة فيه لما ذكرناه وهكذا قول من قال «ما كل رأى الفتى يدعو إلى الرشد» ومنه قول بعض الشعراء «ما كل ماشية بالرحل شملال» والشملال الناقة السريعة، وأراد أن بعض ما يمشى بالرحل ليس سريعا فى سيره، ومنه قولهم «ما كل سوداء تمرة» يعنى أن بعض ما يكون أسود ليس تمرا، وليس منه الحديث النبوى حين سلّم على ثلاث من الظهر، فقال له ذو اليدين يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت، فقال عليه السلام كل ذلك لم يكن، وأراد ما كان شىء من ذلك، فقال ذو اليدين تقريرا لما قد تحققه من الحال، بعض ذلك قد كان، فجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم على غير ظاهر الحال، وجواب ذى اليدين على ما تحققه من الأمر فى التغيير، وغرضه أن بعضه قد كان وهو النسيان دون القصر، فلما كان حرف النفى غير متصدر على «كل» وهو «لم» جاء نفيا للفعل على جهة العموم كما ذكرته. التقرير الثانى أن يكون النفى واقعا على غير «كل» كقولك كل الأصحاب ما جاءنى، وكل الرجال ما أكرمت، وكل القوم ما لقيت، فمتى كان الأمر كما قلناه كان نفيا للفعل متصلا بالكل، فيناقضه ما جاء على خلافه، فإذا قلت: كل الإخوان ما جاءنى، وكل الرجال ما أكرمت، فإنه يناقضه، بل جاءنى بعضهم؛ لأنك نفيت الفعل على جهة الإطلاق، فلأجل هذا ضادّه ما جاء على عكسه، ومنه قوله عليه السلام لذى اليدين كل ذلك لم يكن، وقد قررناه من قبل، وقول أبى النجم «٢» :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علّى ذنبا كله لم أصنع
فإنه أراد أنه لم يصنع شيئا منه، وإنما كان المعنى هكذا، لما كان النفى واقعا على الفعل،