للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عقل من عبده، فكيف من هذه حاله فى عدم الحياة والسمع والبصر من جملة الجمادات والأحجار التى لا حراك لها ولا حياة بها، وأما ثانيا فلأنه دعاه إلى التماس الهداية من جهته على جهة التنبيه والرفق به وسلوك جانب التواضع، فلم يخاطب أباه بالجهل عما يدعوه إليه، ولا وصف نفسه بالاطلاع على كنه الحقائق، والاختصاص بالعلم الفائق، ولكنه قال: معى لطائف من العلم وبعض منه، وذلك هو علم الدلالة على سلوك طريق الهداية، فاتبعنى أنجك مما أنت فيه، وقال له، أهدك صراطا سويا، ولم يقل أنجيك من ورطة الكفر وأنقذك من عماء الحيرة، تأدبا منه، واعتصاء عن مباداته بقبيح كفره، وتسامحا عن ذكره ما يغيظه، وأما ثالثا فلأنه ثبطه عما كان عليه ونهاه عنه، فقال إن الشيطان الذى عصى ربك وكان عدوا لك ولأبيك آدم، هو الذى أوقعك فى هذه الحبائل، وورطك فى هذه الورط وألقاك فى بحر الضلالة، وإنما خص إبراهيم ذكر معصية الشيطان لله تعالى فى مخالفته لأمره واستكباره، ولم يذكر عداوته لآدم وحواء، وما ذاك إلا من أجل إمعانه فى نصيحته فذكر له ما هو الأصل تحذيرا له عن ذلك وعن مواقعته، وأما رابعا فلأنه خوفه من سوء العاقبة بالعذاب السرمدى، ثم إنه لم يصرح له بمماسة العذاب له إكبارا له، وإعظاما لحرمة الأبوة، ولكنه أتى بما يشعر بالشك فى ذلك تأدبا له فقال له: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ

ثم إنه نكر العذاب تحاشيا عن أن يكون هناك عذاب معهود يخاف منه، كأنه قال وما يؤمنك إن بقيت على الكفر أن تستحق عذابا عظيما عليه، وأما خامسا فلأنه صدر كل نصيحة من هذه النصائح بذكر الأبوة، توسلا إليه بحنو الأبوة واستعطافا له برفق الرحمية، ليكون ذلك أسرع إلى الانقياد، وأدعى إلى مفارقة ما هو عليه من الجحود والعناد، فلما سمع كلامه هذا وتفطن لما دعاه إليه، أقبل عليه بفظاظة الكفر، وجلافة الجهل، وغلظ العناد، فناداه باسمه ولم يقل يا بنى كما قال إبراهيم، يا أبت، إعراضا عن مقالته وإصرارا على ما هو فيه، ثم إنه قدم خبر المبتدأ بقوله: أَراغِبٌ أَنْتَ

[مريم: ٤٥] اهتماما بالإنكار وتماديا فى المبالغة فى التعجب عن أن يكون من إبراهيم مثل هذا، فانظر ما بين الخطابين من التفاوت فى الرقة والرحمة وحسن الاستدراج، فلله در الأنبياء! فما أسجح خلائقهم، وأرق شمائلهم، وفى القرآن سعة من هذا، ومملوء من حسن الحجاج والملاطفة، خاصة لمنكرى المعاد الأخروى، وعبادى الأوثان والأصنام، فإن الله تعالى نعى عليهم فعالهم، وسجل عليهم، فانظر إلى حجاجه

<<  <  ج: ص:  >  >>