نفارها عنه بكونه صاحبا لنبيهم وأخا له ومصدقا لما جاء به موسى، كل ذلك إنما يفعله على جهة الملاطفة ليستدرجهم إلى تصديقه بالمحاورة اللطيفة، والخطابات المؤنسة، وأما ثانيا فلأنه قال: يا معشر أهل التوراة، تشريفا لهم ورفعا لمكانهم، حيث صاروا مختصين بكتاب الله تعالى من بين سائر الخلق، وأما ثالثا فهو أنه احتج عليهم بما لا يجدون سبيلا إلى إنكاره من كونه مكتوبا عندهم فى التوارة، ولم يقل لهم انظروا فى معجزتى، ولكنه وكلهم إلى معرفته بما يعرفونه، رفقا بهم ومناصحة وتقريرا لما هم عليه من ذلك، ثم إنه تلا وصفه فى التوراة ليذعنوا بالتصديق على سهولة وقرب، أما رابعا فلأنه قد أورد ذكر وصفه ووصف أصحابه فى الإنجيل ليعرفهم بذلك، إيناسا لهم وتقريبا، وأما خامسا فلأنه ذكر المناشدة، تذكيرا لهم بالآلاء العظيمة، والنعم المترادفة. بإكرامهم، فأولها المنة عليهم بإنزال التوراة وما شرع لهم فيها من الشرائع، وثانيها بإطعامهم المن والسلوى، وثالثها فلق البحر وشقه حتى جازوا فيه وأنجاهم من عدوهم بذلك، فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من الاستدراج الحسن، واللطف المستحسن، والبسط الذى يؤنس القلوب عن نفارها، ويكسبها الإقرار بعد إنكارها، ولو قال فى كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الناسخ لشريعة موسى بن عمران، والماحى لآثارها، والطامس لأعلامها، إلى معشر اليهود الذين خالفوا وبدلوا أحكام التوراة وكذبوا بما جاء من عند الله. وخانوا عهد الله، واشتروا بآياته ثمنا قليلا، أنشدكم بالله الذى مسخكم قردة، وأنزل بكم نكاله، وضرب عليكم الذلة والمسكنة، وأهانكم بالتزام الجزية، وأقعدكم مقاعد الهوان، حيث جحدتم نبوتى، وأنتم تعرفون بها حقيقة. لا لبس فيها، كما تعرفون أبناءكم- لكانت تنفيرا ولم يكن استدراجا، ولصار لجاجا، أحق من أن يكون تقريبا وحجاجا، ثم أقول لقد كان الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكان من الملاطفة وحسن الحجاج قبل الهجرة بالمشركين من أهل مكة وغيرهم من سائر القبائل ثم ما كان منه من الملاطفة بعد الهجرة باليهود بنى قريظة وبنى النضير حتى هلك من هلك عن بينة وحى من حى عن بينة.