للكلام بها فضل بهاء وجودة رونق وصفاء لا يخفى على من كان له أدنى ذوق، ولكن ليس على جهة الإطلاق، فإن الصدق فضله لا يجحد، وحسنه لا ينكر، فمهما كانت المبالغة جارية على جهة الاعتدال بالصدق فهى حسنة جميلة، ومهما كانت جارية على جهة الغلو والإغراق فهى مذمومة، فهذه مذاهب المتكلمين فى حكم المبالغة قد حصرناها وضبطناها ليتضح الحق ويظهر أمره، والمختار عندنا وعليه تعويل أهل التحقيق من علماء البيان تقرير نشير إلى مباديه، ونرمز إلى أسراره ومعانيه، فنقول أما من عاب المبالغة فقد أخطأ، فإن المبالغة فضيلة عظيمة لا يمكن دفعها ولولا أنها فى أعلى مراتب علم البيان لما جاء القرآن ملاحظا لها فى أكثر أحواله، وجاءت فيه على وجوه مختلفة لا يمكن حصرها، فقد أخطأ من عابها على الإطلاق، وأما من استجادها على الإطلاق فغير مصيب على الإطلاق أيضا لأن منها ما يخرج عن الحد فيعظم فيه الغلو والإغراق فيكون مذموما كما سيحكى عن أقوام أغرقوا فيها وتجاوزوا الحد بحيث لا يمكن تصور ما قالوه على حال قرب ولا بعد، لكن خير الأمور أوساطها، فما كان من الكلام جاريا على حد الاستقامة من غير إفراط ولا تفريط فهو الحسن لا مراء فيه، فيكون فيه نوع من المبالغة من غير خروج ولا تجاوز حد، وأحسن بيت ما قاله زهير وهو من بدائع حكمه الشعرية:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم «١»
فما هذا حاله من أعجب الأبيات وأصدقها حكمة، وأدخلها فى معرفة أخلاق الناس، ومن ذلك ما قاله حسان بن ثابت فى حسن الصدق:
وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا
فإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا «٢»
ومن أجل الإخلال بالمبالغة ومراعاتها عيب على حسان فى قوله:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
«٣» فعيب عليه قوله الجفنات، وهو جمع قلّة، وليس هذا من مواضع القلة، وكان الأحسن فيه الجفان وقوله «الغر» والغر إنما تستعمل فى مدح الشىء بالوضوح، وليس هذا من