الانقياد، فسبحان من شملت قدرته جميع الممكنات، تكوينا وإيجادا، وأحاط بكل المعلومات إحكاما وإتقانا، فهذا تقرير نظم الكلام وتأليفه، ثم إنا نعطف على بيان روابط المجاز وعلائقه فى الآية، فقال عز من قائل وَقِيلَ
على جهة المجاز عن الإرادة، ثم إنه حذف الفاعل، وجعله فى طىّ الفعل، إبهاما وإعظاما لحاله عن الذكر عند عروض أمر هذه المكونات على جهة الذل والتسخير، ثم جعل قرينة المجاز مخاطبته للجمادات كما فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
[يوسف: ٨٢] ، يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
[هود: ٤٤] ، على جهة التشبيه لمّا جعلا بمنزلة من عقل الأمر وفهم عظم الاستيلاء، ثم استعار لفور الماء فى الأرض اسم البلع الذى يطلق على القوة الجاذبة للمطعوم، لانعقاد الشبه بينهما، وهو الإذهاب إلى مقر خفى، ثم استعار الماء للغذاء على جهة الكناية، تشبيها له بالغذاء، لأن الأرض لما كانت تتقوى بالماء فى الإنبات للزرع والأشجار والثمار، تقوىّ الآكل بالطعام، وجعل القرينة الدالة على الاستعارة فى لفظ ابْلَعِي
هو كونها موضوعة للاستعمال فى الغذاء دون الماء، ثم إنه وجه الخطاب لها بالأمر على جهة الاستعارة لما ذكرناه من التنبيه المتقدم، حيث نزلها منزلة العقلاء الذين تسربلوا سرابيل المهابة، وتلفعوا بأردية التّذلل منقادين فى حكمة القهر عليهم ببؤس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة، وخاطب بالأمر ترشيحا للاستعارة فى النداء، ثم قال ماءَكِ
مضيفا الماء إلى الأرض على جهة الاستعارة لما لها به من الاختصاص، وجعل الإضافة باللام تشبيها للأرض بالمالك، حيث كانت متصرفة فيه بالابتلاع والذهاب فيه.
وانتفاعها به، ثم إنه قدّم الأرض على السماء لأوجه خمسة، أما أولا: فلما للخلق من الانتفاع بالأرض بالاستقرار وكونها بساطا لهم، وأما ثانيا: فلأنها لما كانت مقرا للسفينة التى تكون بها النجاة لمن ركبها، وأما ثالثا: فلأنها لما كانت مقرا لمائها وماء السماء، وحيث يكون اجتماعها كانت أحق بالتقديم، وأما رابعا: فلأن الغرض هلاكهم فى الأرض لأجل ما حصل من العصيان والمخالفة فيها، وأما خامسا: فلأن البداية بالغرق كانت من جهة الأرض، ولهذا قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ
[المؤمنون: ٢٧] فكان أول نبوع الماء من الأرض، فلأجل هذه الأمور كانت مقدمة فى الخطاب ثم إنه تعالى أقبل على خطاب السماء بمثل ما خاطب به الأرض، لما كان الماء النازل منها هو السبب فى الإهلاك بالغرق، فلأجل ذلك عطف خطابها على خطاب الأرض فقال: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي
[هود: ٤٤] وما ذكرناه فى نداء الأرض وخطابها من الاستعارة فهو حاصل فى خطاب السماء، وإنما اختار لاحتباس المطر