الوجه الأول: أن تكون تلك الدلالة على جهة المطابقة وفيه مذاهب ثلاثة، أولها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه، وهذا هو قول من قال: إن وجه إعجازه، هو سلامته عن المناقضة فى جميع ما تضمنه، وثانيها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه وأبعاضها، وهذا هو قول من قال: إن إعجازه إنما كان لما فيه من بيان الحقائق والأسرار، والدقائق مما يكون العقل مشتغلا بدركها، فإن العلماء من لدن عصر الصحابة رضى الله عنهم إلى يومنا هذا ما زالوا يستنهضون منه كل سر عجيب، ويستنبطون من ألفاظه كل معنى لطيف غريب، فهذا هو الوجه فى إعجازه على رأى هؤلاء، وثالثها أن يكون وجه إعجازه لأمر حاصل فى مجموع ألفاظه وأبعاضها، مما لا يستقل بدركه العقل، وهذا هو قول من قال إن الوجه فى إعجازه ما تضمنه من الأمور الغيبية، واللطائف الإلهية، التى لا يختص بها سوى علامها، فهذه هى أقسام دلالة المطابقة، تكون على هذه الأوجه الثلاثة التى رمزنا إليها.
الوجه الثانى: أن تكون تلك الدلالة على جهة الالتزام، وهذا مذهب من يقول: إن القرآن إنما كان معجزا لبلاغته، وفسر البلاغة باشتمال الكلام على وجوه الاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والحذف، والإضمار، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك من فنون البلاغة.
الوجه الثالث أن تكون تلك الدلالة من جهة تضمنه لما يتضمنه من الأسرار المودعة تحت ألفاظه التى لا تزال على وجه الدهر غضة طرية يجتليها كل ناظر، ويعلو ذروتها كل خريت ماهر، فظهر بما لخصناه من الحصر أن كون القرآن معجزا إما أن يكون للصرفة، أو للنظم، أو لسلامة ألفاظه من التعقيد، أو لخلوه عن التناقض، أو لأجل اشتماله على المعانى الدقيقة، أو لاشتماله على الإخبار بالعلوم الغيبية، أو لأجل الفصاحة والبلاغة، أو لما يتركب من بعض هذه الوجوه، أو من كلها، كما فصلناه من قبل، ونحن الآن نذكر كل واحد من هذه الأقسام كلها، ونبطله سوى ما نختاره منها والله الموفق.