[التوبة: ١٢٨] قرىء بضم الفاء جمع نفس، وقرىء بفتحها يعنى أعلاها، وقوله تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ
[المائدة: ١١٢] برفع «الرب» على الفاعلية وقرىء هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ
بنصبه على المفعولية، فهذه الاختلافات واقعة فيه، فلو كان القرآن من جهة الله تعالى لما وقع فيه هذا الاختلاف، لقوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
[النساء: ٨٢] فعدم الخلاف دليل على أنه من الله، ووجود الخلاف ينفيه، وقد وجد كما ذكرناه، فيجب نفيه عنه.
والجواب من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن وجود الخلاف إنما يكون دالا على أنه ليس من جهة الله تعالى أن لو قال «ولو كان من عند الله لما وجدوا اختلافا» فأما وقد قال وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
فلا يلزم مع اختلافه أن لا يكون من عند الله، كما لو قال القائل: لو كان هذا سوادا لكان لونا، فإنه لا يلزم من عدم كونه سوادا أن لا يكون لونا، فهكذا ما نحن فيه، فلا يلزم من وقوع الاختلاف أن لا يكون من جهة الله تعالى، وأما ثانيا فلأن الآية لم تدل إلا على عدم الاختلاف مطلقا، وليس فيها دلالة على عدم الاختلاف من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه لكنا نحملها على عدم الاختلاف من بعض الوجوه، وهو عدم الاختلاف فى فصاحته، فإنها شاملة له من جميع الوجوه، وبها تميز عن سائر الكتب، فإن الظاهر من حال من صنف كتابا طويلا على مثل طوله، أن لا يبقى كلامه فى الفصاحة على حد واحد ونظم متفق، بل يكون كلامه فى بعض المواضع صحيحا وفى بعضها ركيكا فاسدا بخلاف القرآن، فإنه حاصل على طريقة واحدة فى البلاغة والفصاحة، وحسن الانتظام وجودة الاتساق، وأما ثالثا فلأنا نسلم وقوع الاختلاف فيه كما ذكروه فى أحرف القرآن المختلفة، ولكنه حق وصواب، ولهذا جاء فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم:«نزل القرآن من سبع سموات على سبعة أحرف كل حرف منها شاف كاف»«١» ، وهذه الأحرف السبعة عبارة عن اللغات، لكن منها ما كان متواتر النقل، وهو ما كان عن القراء السبعة، ومنها ما يكون منقولا بالآحاد، وكله حاصل من جهة الرسول ونزل به جبريل، وأخذه من اللوح المحفوظ، فإذن حصول هذا الاختلاف لا يمنع من كونه قرآنا، ولا من كونه نازلا من السماء على ألسنة الملائكة والرسل، وفى ذلك بطلان ما قالوه والحمد لله.