والجواب أن الله تعالى لم يجعل كتابه الكريم حاصلا على جهة الإحكام، ولا على جهة المتشابه مطلقا، وإنما خلطه بالمحكم مرة، وبالمتشابه أخرى، فقال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
[آل عمران: ٧] وما ذاك إلا من أجل فوائد نذكرها بمعونة الله تعالى.
الأولى الدعاء إلى النظر والحث عليه فى القرآن العظيم للمحق والمبطل، جميعا، فأما المحق فيزداد بالنظر قوة وانشراحا فى صدره، وسعة فى أمره، بإبطال الشبهة، وتجلى الحق له، وأما المبطل فلأنه بطول تأمله ربما زال عن باطله ورجع إلى الحق، فلو كان جميعه محكما لم يحصل هذا الوجه، لأن المحكم إنما يكون بالتنصيص عليه، وما كان حاصلا بالنص لا يفتقر إلى تأمل ونظر.
الفائدة الثانية أن القرآن إنما كان مشتملا على المحكم، والمتشابه، لأن ذلك يدعو الناظر إلى الميز بينهما، وفصل أحدهما عن الآخر، فإذا فعل ذلك دعاه إلى التمييز فى أدلة العقول بين الحق والباطل، وهذه فائدة عظيمة لا يخفى موقعها، فيكون نظره فى متشابه القرآن ومحكمه على جهة الإرهاص لأدلة العقل، ويميز الحق عن الشبهة فيها.
الفائدة الثالثة أن القرآن إذا كان مخلوطا بالمحكم والمتشابه، فإن ما هذا حاله يدعو إلى مراجعة العلماء ويعرف جليلة ذلك من جهتهم، ومجالسة العلماء ومحادثتهم هو زيادة فى الدين وتحفظ عليه، فيرتد عن العمى، ويسترشد إلى الهدى، ولهذا ودد الشرع تأكيدا لذلك حيث قال: جالسوا العلماء تعلموا.
الفائدة الرابعة أن القرآن إذا كان غير وارد بالأمرين جميعا، أعنى المحكم والمتشابه، كان أقرب إلى الاتكال على الحمل على ظاهره، بخلاف ما إذا ورد مجموعا من الأمرين، فإنه يكون أقرب إلى ترك التقليد، إذ ليس اتباع المحكم أولى وأحق من اتباع المتشابه، فإذا كان لا ترجيح هناك بالإضافة إلى التقليد، وجب إهماله والاتكال على النظر المخلص عن ورط الحيرة بالتقليد.
الفائدة الخامسة أن الله تعالى إذا كان يعلم أنه إذا خلط محكمه بمتشابهه، ازداد الثوب والأجر بكثرة النظر وإتعاب الفكرة جاز له تعريضهم لذلك فيصلون بذلك إلى درجات لا تنال إلا بالنظر، فهذه الفوائد كلها حاصلة فيما ذكرناه من الخطاب بالمتشابه وإذا كانت حاصلة بطل قولهم: إنه لا غرض لله تعالى فى الخطاب بالمتشابه.