كان المعتصم يخرج ساعده إليّ فيقول: يا أبا عبد الله عضّ ساعدي بأكثر من قوّتك؛ فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك؛ فيقول: إنه لا يضرّني؛ فأروم «١» ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنّة فضلا عن الأسنان.
وانصرف يوما من دار المأمون إلى داره، وكان شارع الميدان منتظما بالخيم، فيها الجند، فمرّ المعتصم بامرأة تبكي، وتقول: ابني ابني؛ وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها؛ فدعاه المعتصم وأمره أن يردّ ابنها عليها؛ فأبى، فاستدناه فدنا منه فقبض عليه بيده، فسمع صوت عظامه، ثم أطلقه من يده، فسقط، وأمر بإخراج الصّبيّ إلى أمّه.
قال عمرو بن محمد الرّومي:
كان على بيت مال المعتصم رجل من أهل خراسان يكنى أبا حاتم؛ فخرجت لي جائزة فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جارية مغنّية اسمها قاسم، بستّين ألف درهم، قال: فعملت فيها شعرا، وجلست ألاعب المعتصم بالشّطرنج في يوم الجمار، وكان يشرب يوما ويستريح يوما ليلعب فيه، ونلعب بين يديه، فجعلت أنشده:
لتنصفنّي يا أبا حاتم أو لنصيرنّ إلى حاكم
فتعطي الحقّ على ذلّة بالرّغم من أنفك ذا الرّاغم
يا سارقا مال إمام الهدى سيظهر الظّلم على الظّالم
ستّون ألفا في شرا قاسم من مال هذا الملك النّائم!
فقال لي: ما هذا الشّعر؟ فتفازعت كأني أنشدته ساهيا، وتلجلجت؛ فقال: أعده؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني؛ وإنّما أريد أن يحرص على أن يسمعه؛ فقال: أعده ويلك؛ فأعدته؛ فقال: ما هذا؟ فقلت: أظنّ صاحب بيت المال مطل بعض هؤلاء الشّعراء بشيء له، فعمل فيه هذا الشّعر؛ قال: فما معنى قاسم؟ قلت: جارية اشتراها بستّين ألف درهم؛ قال: وأراني أنا الملك النائم؟ صدق والله قائل هذا الشّعر، والله لو عرفته لوصلته