[تدبر القرآن الكريم]
كيف نعيش مع القرآن؟ القرآن عظيم، وليس هو للصغار أو الكبار أو للمرضى فقط، بل هو للناس كافة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لـ ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن.
قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) فلا تجعل وقتك كله قراءة، بل اجعل بعض الأوقات للسماع، وضع بعض أشرطة القرآن في السيارة وأنت ذاهب إلى العمل وأنت ذاهب إلى المنزل (قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) من القارئ؟ إنه ابن مسعود رضي الله عنه، ومن المستمع؟ إنه أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام.
وما الحديث بينهما؟ إنه كلام الرب جل وعلا، فإذ بالمجلس يعقد، وإذا بـ ابن مسعود يستعيذ بالله ويقرأ (قال: فقرأت من سورة النساء، حتى بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:٤١] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن.
فالتفت فإذا عيناه تذرفان) هذا هو القرآن العظيم، الذي أنار تلك القلوب الخاوية، وتلك الصدور الموحشة، وتلك الأفئدة المظلمة.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه يقرأ القرآن في الصلاة وكان إماماً، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٤ - ٦] فانفجر بالبكاء، حتى ما استطاع أن يكمل القراءة، فكبر وركع وأكمل صلاته.
يقرءون القرآن بقلوب حية وجلة قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:٢] هذه صفة المؤمنين، انظر هل أنت منهم أم لا؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢] هل إذا سمعت كلام الله يوجل القلب ويرتجف؟ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:٢] هل أنت منهم؟ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢].
وهذا عمر بن الخطاب الذي كان قبل الإسلام ذا قلب شديد صلى بالناس صلاة الفجر، فقرأ سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] فأخذ يبكي حتى سمع نشيجه وراء الصفوف أرأيت كيف يعيشون مع كتاب الله؟
قد تسألني وتقول: هناك هم في صدري.
أقول لك: اقرأ كلام الله تقول: هناك ضيق في الصدر.
أقول لك: اقرأ كلام الله.
تقول: أحس بعض الأحيان بالوحشة.
أقول لك: ارجع إلى كلام الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].
انظروا إلى بيت الفضيل بن عياض الذي كان يسمى عابد الحرمين؛ رجل بلغ القمة في العبادة والزهد، هذا الرجل كان عنده ولد اسمه علي، وكان أعبد منه وأزهد؛ لأن رب الأسرة إذا كان صالحاً يخرج أولاداً صالحين هذا في الغالب والعموم:
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت الغناء والرقص
هذا الرجل دخل إلى البيت يوماً فرأى ولده علي بن الفضيل كأنه متضايق يجول في البيت وكأن شيئاً أصابه، فقال له: ما بالك يا بني؟ ما الذي جرى؟ قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ -انظر بماذا يهتم الابن ويفكر، أسألكم أيها الآباء: هل دخلتم إلى المنزل يوماً واشتكى الابن من شيء من أمور دينه؟ - قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ ثم قال: يا أبي أسألك أن تسأل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة، ثم بكى، يقول الفضيل: فأحزنني فأخذت أبكي.
علي بن الفضيل كان ليله قيام ونهاره صيام، يقولون: ما كان يطيق أن يقرأ سورة القارعة سورة القارعة التي نرددها صباح مساء ونقرؤها ولا نتدبرها، علي بن الفضيل كان لا يستطيع قراءتها كلها، بل كان ما يطيق أن يسمعها من غيره.
وكان سفيان الثوري يحدث الناس في المسجد، فإذا به يسمع شاباً يبكي بكاء شديداً، فقال: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: هذا علي بن الفضيل بن عياض، فقال لهم: والله لو علمت أنه في المجلس ما حدثتكم عن النار.
سألتني امرأة بالهاتف يوماً فقالت: يا شيخ أريد أن أنتحر.
لا إله إلا الله! في بلاد المسلمين ومن أب وأم مسلمين! لِمَ تريدين الانتحار؟ تقول: جربت كل أنواع المعاصي والفساد، والآن إذا لم تكلمني وتردني عن الانتحار فسوف أنتحر.
الله أكبر! أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:١٢٤] أي قرآن في جوفها؟ أي ذكر لله؟ أي صلاة؟ أي عبادة؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].
أيها الآباء: حرضوا أبناءكم على حفظ كتاب الله، وأتوا بهم إلى حلقات القرآن.
أيها الشباب: استغلوا أعماركم في حفظ كتاب الله فأيما إهاب -جلد- خالطه كلام الله فقد حرمه الله على النار، (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
يلبس تاج الوقار، ويكرّم أبوه وأمه عند الله جل وعلا يوم القيامة فإن أكبر شرف وأكبر عزٍ لك يوم القيامة عندما يأتى ابنك وقد ختم كتاب الله جل وعلا.
هل تريد يا أخي الكريم! أن يكون ابنك حافظاً لكلام الله أو مطرباً؟ اسأل نفسك هذا
السؤال
أيهما أشرف لك، وأكثر رفعة وعزة: أن يملأ صدر ابنك كلام الله جل علا، أم يملؤه الغناء والطرب؟ فكر، وكن صادقاً مع نفسك، فإن العبرة ليست في الدنيا، إذا تعلق الابن بأبيه يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].
أخي العزيز: لنرجع مرة أخرى إلى كتاب الله قراءة وحفظاً وتدبراً، يقول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤] فهذا سعيد بن جبير قام ليلة كاملة بآية واحدة يرددها ويبكي، وهو أحد التابعين، ومن أعبد الناس، يقوم ليلة كاملة بقوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:٥٩].