[زهده في الدنيا ورغبته فيما عند الله]
في حجة الوداع أوحى الله إليه: إنك يا محمد! سوف تغادر هذه الدنيا، لقد قاربت المهمة على النهاية، فإذا به يهيء قومه ويهيء المسلمين لهذا: (أيها الناس خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، ونعاه الله عز وجل بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:١ - ٣].
فرجع من حجه (وفي شهر صفر أصيب بوعك شديد، فدخل على عائشة، قالت عائشة: يا رسول الله! وارأساه، قال: بل أنا وارأساه يا عائشة!) فجلس مريضاً.
واشتد به المرض عليه الصلاة والسلام حتى عصب رأسه يوماً من الأيام فخرج على المنبر في الناس، فجمع الصحابة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله فبكى من الصحابة رجل واحد -من هو؟ إنه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه- قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! ثم قال: إن مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الرحمن) وأبو بكر يبكي ولا يعلم الناس لِمَ يبكي، علم أبو بكر بالخبر، علم أبو بكر بأن النبي يخبر الناس بأنه هو العبد الذي اختار ما عند الله.
خرج عليه الصلاة والسلام ليلةً من الليالي مع أبو مويهبة إلى البقيع يستغفر للمؤمنين، قال: (يا أبا مويهبة! إني قد خيرت بين مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء ربي والجنة، قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! اختر الخلد في الدنيا والجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! اخترت لقاء ربي والجنة).
مرت الأيام، اشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت به الحمى، واشتدت به الحرارة، حتى جاء ذلك اليوم الذي استأذنه بلال بالصلاة، فقال النبي لـ عائشة: (مري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام، ويقول له أن يصلي بالناس، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف يا رسول الله! مُرْ غيره، قال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) خليفته من بعده، إنها الخلافة الشرعية التي سوف تكون هي الخلافة السياسية.
فإذا بـ بلال يؤذن أبا بكر أن يصلي بالناس، فأقام بلال الصلاة، فكبر أبو بكر بالصلاة وأخذ الصحابة يبكون؛ لأن الإمام وإن كان أبو بكر، لكنه ليس حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم!
يوم ويومان ويشتد بالنبي المرض، كان يسكب عليه الماء الكثير بالقرب، حتى يقوم في الناس ليصلي، ولكنه لم يستطع عليه الصلاة والسلام.
دخلت عليه فاطمة فبكت لما رأت حاله، وقالت: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! قال: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم، جاءت إليه فأسرَّها بِسِرٍّ؛ فبكت فاطمة، ثم بِسِرٍّ آخر؛ فضحكت فاطمة رضي الله عنها).
فقالت عائشة بعد زمن: [ماذا كان ذلك الذي أخبرك به؟ قالت: أخبرني بأنه سوف يفارق الدنيا فبكيت، ثم أخبرني بأنني أول الناس لحوقاً به فضحكت واستبشرت بهذا].
مر اليومان ثم في اليوم الثالث اشتد بالنبي عليه الصلاة والسلام المرض، وكان عند عائشة فدخل عبد الرحمن أخوها، وكان بيده سواك، فنظر النبي إلى السواك، فرطَّبته عائشة بريقها، وسوَّكت به النبي عليه الصلاة والسلام، ورأسه بين حجر عائشة ونحرها، وبل ريقه ريقها، ثم بعد قليل قال النبي -بعد أن وصَّى الأمة بما وصَّاها بها-: (لا إله إلا الله لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ثم غُمِّضت عيناه، وفارقت تلك الروح الطاهرة ذلك الجسد الطيب، فأظلم في المدينة كل شيء!!
دمعت أعين الصحابة، وبكى مَن بكى.
أما علي فلم يقدر على الكلام.
وأما عثمان فلم يقوَ على القيام.
وأما عمر رضي الله عنه، فقال: [من زعم أن رسول الله قد مات لأضربنه بالسيف، إنه لم يمت، بل ذهب إلى ربه وسيعود كما ذهب موسى].
حتى جاء أبو بكر إلى بيت ابنته عائشة فدخل على النبي وقد سُجِّي بالغطاء، فأزال الغطاء عن وجهه، فدمعت عيناه ثم قبله بين عينيه، وقال: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخر].
ثم خرج إلى الناس فنظر إلى عمر قال: يا عمر! اجلس.
فما جلس يا عمر! اجلس فما جلس.
فقام أبو بكر خطيباً في الناس، فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]] يقول عمر: [كأنني أسمع الآية لأول مرة] فرددها الصحابة في الطرق والشوارع، والكل يردد هذه الآية.
ثم غسل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أدخل جسده الطاهر ذلك القبر الشريف، في المكان الذي توفي فيه.
تقول فاطمة وقد بكت بعد أن دفن: [كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!].
أما علي رضي الله عنه وهو يغسله يقول وهو يبكي: [ما أطيبك حياً وميتاً يا رسول الله!].
أما أنس، يقول: [لما دفناه أنكرنا قلوبنا، وأظلم في المدينة كل شيء].
حتى بعد أن مضى شيء من الزمان، قال أبو بكر وقد قام في الناس خطيباً: [أما بعد: فقد قال النبي وهو على هذا المنبر، ثم توقف وأخذ يبكي لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أما عمر بعد أن فتح بيت المقدس وأذن بلال بالناس، وقف عمر بن الخطاب عند أحد الجدر وأخذ يبكي، وبكى الصحابة معه لما تذكروا إمامهم وقدوتهم محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].