استمع يا عبد الله إلى أبي قدامة الشامي، يقوم في الناس خطيباً يحثهم على الجهاد، والروم قد قدموا على المسلمين يحاربونهم، فقام أبو قدامة الشامي يحث الناس على الجهاد، وعلى القدوم على جنة الرحمن، وعلى الموت في سبيل الله فذهب إلى المعركة، وجدَّ الناس، وتأهبوا للقتال، فجاءت امرأة بيدها ظرف فقالت له تناديه: يا شيخ! تسلم عليه، فما رد عليها، خاف من الفتنة، فنادته الثالثة، فنظر إليها، فقالت: خذ هذا الظرف، فوالله لا أجد غيره، ففتحه فإذا فهي ضفيرتان؛ ما هذا يا أمة الله؟ شعرها، قالت: والله ليس عندي أغلى منهما، أنفقه في سبيل الله، أسألك بالله لَمَا جعلته لجاماً لفرسك في سبيل الله! قال: الله أكبر! الله أكبر! جيش فيه لجام الفرس ضفيرة لامرأة، فذهب إلى المعركة ودخل فيها فجاءه صبي صغير فقال له: يا عم، أسألك بالله لَمَا أخذتني معك في الجهاد! قال: أنت صبي صغير عذرك الله فارجع قال: أسألك بالله لَمَا حملتني معك في الجهاد في سبيل الله، فحمله على الدابة قال: بشرط، قال: وما هو الشرط؟ قال: أسألك إن متَّ شهيداً وأتيتَ إلى الله يوم القيامة أن تجعلني من الذين تشفع فيهم، قال: هو ذاك، فحمل الصغير على دابته ودخلا في المعركة، وفي أثناء المعركة قال له: يا عم أعطني ثلاثة أسهم قال: يا بني! اجعلها للرجال يرمون بها في المعركة قال: يا عم أعطني ثلاثة أسهم، فأعطاه الثلاثة فرمى الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة فرمى الأول فقَتَل به رومياً نصرانياً، فأخذ الثاني فقال: السلام عيك يا أبا قدامة، فرمى به فقتل به نصرانياً، فرمى الثالث فقَتَل به نصرانياً ثالثاً، فجاءتة رمية طائشة فسقط من على الدابة، فنزل الشيخ الكبير إلى ذلك الصبي الصغير فنظر إليه وهو يقول: يا بني! لا تنسَ الوعد الذي بين وبينك، ثم قال له: يا عم خذ هذا الخَرْجَ، فأعطه لأمي قال: ومن أمك يا بني؟ قال: أمي التي أعطتك ضفيرتها: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:٣٤].
فأخذ الخَرْجَ واجتمع الناس عليه ليدفنوه كما يُدفن سائر القتلى، فلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، سبحان الله! وكلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، فنام ذلك الشيخ الكبير، أخذته نومة، ثم جيء له في المنام، فقيل له: يا أبا قدامة! اترك ولي الله، فتركوه وابتعدوا عنه، فجاءت طير من السماء تتخطفه وتأكل لحمه، ثم ذهبت ولم يبق إلا العظم، فأرجعوه في الأرض، وتعجبوا فلما رجعوا إلى بلدهم وكان بيده ذلك الخَرْج طرق الباب على بيته، فخرجت أخته فقالت له: أمهنئ أم معزٍّ قال لها: بل مهنئ باستشهاد ولدكم، فقالت له: لقد رُزِئْنا بأبينا، قُتل أبونا في الجهاد فاحتسبناه عند الله، ورزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن رزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، ثم خرجت أمه التي أعطته الضفائر فقالت له: أمعزٍّ أم مهنئ؟ قال: بل مهنئ بموت ولدكم في سبيل الله، ثم أعطاها ذلك الخَرْج وأخبرها بالخبر فقال لها: جاءته طير فأخذت لحمه ثم ذهبت، فقالت له أمه: شهيد إن شاء الله قال: وما ذاك؟ ففتحت الخَرْج فإذا فيه صوف كان يلبسه ذلك الصبي تقول: كان إذا جاء الليل يلبس هذا اللباس ثم يصلي ويركع ويسجد، حتى إذا جاء السحر ونزل الرب إلى السماء الدنيا قال: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير، يعني: في بطون الطير، شهيداً في سبيلك يا رب! تقول: كل ليلة كان يدعو بهذا الدعاء أما الأول فاستجاب الله له، أما الثاني: فهي ترجوه عند الله، ثم احتسبته عند الله فقال الرجل: لا إله إلا الله!
إي والله! لا إله إلا الله! شمروا للجنة:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب:٢٣].
تخيل صبياً يفعل هذه الأفعال! تخيلوا امرأة تفعل ذلك الفعل! ما بالنا نحن الرجال! ما بالنا نحن الأشداء!