كان الإمام مالك رحمه الله يغلق كتب العلم في رمضان يغلق مجالس الحديث والإفتاء، ويعتكف على القرآن، وكان الإمام الشافعي رحمه الله في النهار يختم القرآن كله، وفي الليل يختم القرآن مرةً ثانية، فلا ينقضي رمضان إلا وقد ختم القرآن ستين مرة.
أتظنه ينام كما ينام الناس في هذا الزمان؟ أم تظنه يجلس مجالس لغو وغيبة ونميمة ولعب ومسلسلات وأفلام كما يفعل الناس في هذا الزمن؟ لا والله! هذا الإمام عرف قدر القرآن في هذا الشهر، لأن الله أنزل القرآن فيه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[الدخان:٣] بارك الله في هذه الليلة لم؛ لأن القرآن أنزل فيها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في خباه لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، يعتكف للقاء الله جل وعلا، وكان جبريل يدارسه القرآن، وكان السلف من بعده أحدهم في المسجد لا يخرج إلا للوضوء ويرجع، بين مصحفٍ وقرآن أي قراءة نريد؟ هل نريد قرآناً هذاً كهذِّ الشعر؟ أو كقراءة جرائد؟ أو أن تفتخر بين أصحابك أنك قرأت القرآن مرتين أو ثلاث! لا، نريد قرآناً كما قرأه السلف كيف قرءوه؟ هذا أفضل الخلق يقول لصاحبه ابن مسعود:(اقرأ علي القرآن.
قال ابن مسعود: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت حتى وصلت إلى قوله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}[النساء:٤١] فسمعته يقول: حسبك.
فنظرت فإذا عيناه تذرفان) عليه الصلاة والسلام، ويدخل عليه بلال وهو يبكي فيقول:(يا رسول الله! لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: قد أنزل علي الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:١٩٠ - ١٩١]).
يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه خاشعاً، يوشك أن يخطئ الإمام ولم يدر به أحد، يوشك أن تسأل المصلين بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام؟ فلا يجيبك أحد، يوشك أن يأتي هذا اليوم أن يقول الناس بعد الصلاة: ماذا قرأت أيها الإمام؟ لم نعقل إلا التكبير والسلام، لم نعقل شيئاً آخر.
الفضيل بن عياض قرأ آية واحدة ورددها حتى بكى، وهي قوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:٨ - ٩].
وكان أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية واحدة، وعائشة تصلي الضحى بآية واحدة، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:٢٧].