[صور أخرى للتضحية في طلب العلم]
اسمع إليهم كيف كانوا يجوعون لأجل أن يحفظ الواحد منهم حديثاً واحداً.
يقول بكر بن حمدان المروزي: سمعت ابن خراش يقول: شربت بولي في طلب الحديث خمس مرات، في سفر صحراء عطش يموت وللضرورة أحكام، وتباح المحرمات وقت الضرورات من شدة العطش، في الطريق ما عنده ماء، فيشرب بوله -أجلكم الله- هل يرده هذا عن العلم؟ لا استمر في طلب الحديث ولا يبالي بالجوع.
أقول لك أخي الكريم: تقول: ما عندي وقت؟ أقول لك: فرط يوماً واحداً من الأيام في الغداء فهل تستطيع أن تتحمل معنا درساً بعد العشاء؟
إلى متى يستمر؟
إلى الثانية عشرة.
لكن العشاء متى أتعشى؟
سبحان الله! طالب العلم لا يفكر في العشاء، طالب العلم لا يقارن الغذاء بطلب العلم غذاؤه وروحه هذا العلم، بل بعضهم لو تضع أشهى أنواع الطعام عنده والكتاب لا يبالي بالطعام؛ لأن ألذ ما عنده هو هذا العلم.
اسمع إلى غيرهم! يقول ابن الجوزي: كنت في زمن الصبا، آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر ميسان، فلا أقدر على أكلها، خبز لا يستطيع الواحد أن يأكله، إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين أمتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، يترك الطعام كله ويشبع بكسرة خبز لا يستطيع بلعها إلا بشربة ماء كل هذا لماذا؟ يجلس ويحفظ الأحاديث ويطلب العلم.
حتى النوم لا ينامون إلا قليلاً.
الجوع قلنا: لا يأكلون إلا قليلاً.
المال قلنا: لا يجمعون واسمع إلى أخبارهم، وتعجب من رواياتهم!
تقول فاطمة بنت الشافعي -أما الشافعي فله غرائب وله كرامات رحمه الله، وهذا رجل لم تلد النساء مثله في يومه، رجل قلَّما تجد مثله في التاريخ- تقول عنه فاطمة: ربما أوقدت له في ليلة سبعين مرة، أتعرف لماذا؟ لطلب العلم؛ ليكتب فائدة أو يتذكر شيئاً يكتبه، سبعون مرة في ليلة واحدة، أنت تفعلها مرتين؟ بل بعضنا لا يفعلها لصلاة الفجر لا يوقَد له سراج، ولو قلت لك: هناك حلقة علم الساعة الثانية في الليل هل تحضرها؟ هذا يوقَد له سبعين مرة في ليلة واحدة ويقوم وينام ويقوم وينام؟
يقول أسد بن الفرات وهذه أيضاً فيها غرابة -وهو تلميذ الإمام مالك، انظر إلى هؤلاء الرجل الأفذاذ وانظر ماذا خرجوا- يقول: أتى محمد بن الحسن، فقال: إني غريب! قليل النفقة، والسماع منك نزر، أي: صعب لا أستطيع أن أسمع منك العلم والطلبة عندك كثير فما حيلتي؟ قال: اسمع مع العراقيين بالنهار -يقول محمد بن الحسن لهذا الرجل- يقول: أحضر الدروس في النهار، ولا تتركها، وأجعل لك الليل وحدك في الليل لا يسمع بك أحد فتبيت عندي وأسمعك ما رأيك؟ قال أسد: وكنت أبيت عنده وينزل إلي يعني: في الليل، ويجعل بين يدي قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة يشرح، قال: فإذا طال الليل ونعست، نام، النهار كله علم، والليل يجلس يسمع، قال: فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، قال: فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد منه من السماع عليه.
هل جربت هذا؟ أم هل تصورت هذا؟ الواحد من الدرس تنعس عينه إذا صار الدرس ساعة ونصف لا نتحمل، سبحان الله! انظر إلى هؤلاء الرجال وكيف وصلوا.
يقال عنه: إن جميع أوقاته كانت كلها في دروس حتى في الطريق، وكان ربما سقط في حفر الطريق، يمشي وحوله التلاميذ وربما سقط وهو لا يدري؛ لأنه يدرس، قال: وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة وهو لا يشعر.