للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبادات]

من الأمور التي تستغل بها وقتك: العبادات.

أن تعبد الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:٧ - ٨].

السلف كان الواحد منهم يقضي الليل في القيام والنهار في الصيام، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد، الذي اشترى الجنة ثلاث مرات يروى أنه كان يختم القرآن كل ليلة قد تقول لي: خالف السنة.

أقول لك: أين نحن من السنة؟ تسأل بعضهم: من رمضان إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ يقول: ولا مرة، إنا لله وإنا إليه راجعون! متى قمت الليل؟ يقول: من الشهر الماضي أو من الشهر الذي قبله، قمت الليل مرة، وقبل النوم أما الأولون: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:١٧] كان نومهم قليلاً، أتعرف ماذا يفعلون في الليل؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨] عبادة وصلاة، كان ابن عمر يصلي في الليل وعنده نافع مولاه، فإذا سلم من صلاته يسأل مولاه: أسحرنا؟ أي: أجاء السحر؟ فيقول: لا.

فيكبر ويصلي، ثم يسأله، فإذا قال له نعم.

جلس يستغفر الله حتى طلوع الفجر.

وكان بعضهم إذا صلى العشاء وضع له حصير في المسجد ينام عليه بعد صلاة العشاء، ثم يقوم يتوضأ ويصلي، فإذا صلى وغلبته عيناه أخذ غفوة مرة أخرى -ينام كنومة الطير- ثم يقوم ويتوضأ ويصلي، فإذا نعس نام مرة ثالثة، وهكذا يقوم وينام، ويقوم وينام حتى طلوع الفجر {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [لسجدة:١٦].

وكان عمر بن عبد العزيز كل ليلة يجتمع حوله أهل العلم أمير المؤمنين! يحكم الدنيا بأجمعها، دولة الإسلام تحكم المشرق والمغرب، تحته الجيوش ويملك الأموال، وكل ليلة يجتمع عنده العلماء والفقهاء والوعاظ والزهاد، فيذكرونه بالآخرة، فيبكي ويبكون معه كأن جنازة بين أيديهم.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه بالخد أجراه

وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه

أين أنت من العبادات؟ كم ضيعنا من ليالي؟

إن بعض الناس يقول: يا شيخ! أحس بوحشة، أحس بضيق، أحس بظلام في قلبي، أقول له: هل تصلي في الليل؟ هل تقوم ركعات ينور الله لك قلبك، ويشفي لك صدرك؟ قم الليل يا أخي العزيز! {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:١ - ٥].

يدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى اجتهاده في قيام الليل وتفطر قدميه، فيقول: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ قد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]) إن كان قائماً فهو يذكر الله، وإن كان قاعداً فهو يذكر الله، وإن كان على جنبه فهو يذكر الله، لسانه رطب من ذكر الله، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، فاللسان منشغل بالذكر، والقلب والعقل منشغلان بالفكر، يتفكران في خلق السموات والأرض: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١].

بكى من أجلها صلى الله عليه وسلم، وكان عنده عائشة سيدة النساء رضي الله عنها، فقالت: (تفعل هذا وقد غفر الله ذنبك؟ فيقول: يا عائشة! دعيني أتعبد لربي، يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً) يربيها عليه الصلاة والسلام، حتى كانت يوماً من الأيام تردد آية من الصباح إلى منتصف النهار، آية واحدة ترددها عائشة وتبكي وتصلي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧].

هل فكرت أن تشغل وقتك بطاعة الله؟ بالعبادة وفي الذكر وقراءة القرآن؟

إن العبادة أوسع من هذا، فهل فكرت في عيادة المرضى؟ هل فكرت في اتباع الجنائز؟ هل فكرت في زيارة المقابر؟ هل فكرت في صلة الأرحام؟ هل فكرت في بر الوالدين.

كان النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم بين أصحابه، وفيهم رجل كبير قد جاوز الستين من العمر، وقد اشتغل رأسه شيباً، إنه الصديق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ -وأنا أسأل هذا السؤال وأجبني بنفسك: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ - قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! -ليس مجال إخلاص ورياء، الآن لا بد أن يجيب، متى صمت لله تطوعاً؟ متى يا أخي الكريم؟ - من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! ثم قال: من اتبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما اجتمعن في مؤمن إلا وجبت له الجنة) ولو زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزاد أبو بكر.

إنه أبو بكر الذي عندما سمع أن للجنة ثمانية أبواب، ما رضي أن يدعى من باب أو بابين، ما رضي إلا أن يدعى من ثمانية أبواب، فقال: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ قال: نعم يا أبا بكر! وإني لأرجو الله أن تكون منهم) هل فكرت أن تكون مثل أبي بكر؟ متى عدت المرضى؟ ليسوا بأقرباء لك ولا أرحاماً، مسلمون لا تعرفهم ولا يعرفونك، تأتي وتزورهم في أول اليوم أو في آخره، هل فكرت في هذا؟ فإنه يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تمسي، وإذا زرت مريضاً في المساء يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تصبح.

أخي العزيز: هل فكرت أن تزور المقابر؟ هل فكرت أن تتبع الجنائز؟ وأن تصل الأرحام؟ يقول عمر: صليت الفجر فإذا بـ أبي بكر يخرج من المسجد، وكل يوم أصلي وإذا به يخرج من المسجد، ولا أدري إلى أين يذهب هذا الرجل -وكانا يتنافسان، وهذا في خلافة أبي بكر - يقول: فتبعته يوماً -انظر إلى الذين يعرفون كيف يحفظون أعمارهم- قال: تبعته فرأيته يدخل كوخاً في ناحية المدينة، -بيت قديم- فلما خرج، جئت إلى هذا البيت وطرقت الباب، واستأذنت ودخلت، فإذا في البيت امرأة عجوز كبيرة حسيرة كسيرة، لا تستطيع المشي، فسلمت عليها، وقلت لها: يرحمك الله! من هذا الرجل الذي يدخل عليك كل يوم؟ -خليفة رسول الله، أمير المؤمنين- قالت المرأة العجوز: والله لا أعرفه.

قال عمر: ما يصنع عندك كل يوم؟ قالت: يأتيني كل يوم يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويغسل ثيابنا، ويحلب شياهنا، ثم يتركنا.

فلما سمع عمر هذه الكلمات، بكى وخر على ركبتيه وهو يبكي ويقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر، لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠ - ١١].

هل سمعنا أن أبا بكر أسس قصراً؟ أو أثث أثاثاً فخماً وثرياً؟ أو جمع ثروة؟ لا والله.

إن أبا بكر أول هذه الأمة دخولاً الجنة، وينادى من ثمانية أبواب، أتعرف لماذا؟ لأن أبا بكر عرف كيف يحفظ وقته من الصباح إلى المساء، لا ينسى امرأة عجوزاً ولا طفلاً صغيراً ولا يتيماً ولا مسكيناً، لقد عرف كيف يعود المرضى، وكيف يصوم لله تطوعاً، وكيف يتصدق من ماله، وكيف يقوم الليل، حتى قالت عائشة لما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.

قالت: إن أبا بكر رجل أسيف) أي: إذا كبر واستفتح الفاتحة بكى، نعم.

إنه رجل في الليل قوَّام، وفي النهار صوَّام، وفي الجهاد قاتل المرتدين لوحده، وهو يقول للصحابة: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] ولعله جاوز الستين من العمر، وما بقي من حياته إلا سنة أو سنتين.

هكذا عرفوا كيف يحفظون أوقاتهم.

تقول لي بعد هذا: يا شيخ! عندي أوقات كثيرة فارغة لا أعرف ماذا أعمل فيها!! أقول لك: يا أخي العزيز! لم تعرف حقيقة العبادة، فليست العبادة صلوات فقط، وليست قيام ليل فقط، العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولو كانت زيارة مقابر، أو عيادة مرضى، أو إطعام مسكين، أو كفالة يتيم، أو دعوة إلى الله جل وعلا، فكل شيء يحبه الله جل وعلا فهو عبادة، فحاول أن تكتشف أين الخلل في حياتك فتسده في طاعة الله.