للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم]

هل يتجرأ واحد منا أن يأكل ديناراً من ربا؟ ولو أعطيتك ديناراً من الربا فهل ستأخذه؟ أعوذ بالله من الربا (درهم ربا -يأكله وهو يعلم- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) (إن أدنى الربا مثل أن يأتي الرجل أمه) وإن أشد تصوير لجريمة في القرآن هو للربا، قال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧] قال ابن عباس: [يعطى صاحب الربا يوم القيامة رمحاً فيقال له: بارز ربك!] تأكل الربا طول عمرك فالآن حارب ربك! ومن منا يقوى على تلك العقوبة؟! إن الربا شنيع، وإن أربى الربا وأشد الربا الاستطالة في عرض المسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وإنَّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه) وإذا كانت حرمة المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة، فما بالك يا أخي العزيز! وما الذي جرأك؟! وبأي حجة تلقى الله؟ وبأي عذر تواجه ربك؟

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢] انظر الآن إلى الخطوات الربانية! انظر إلى القرآن وتسلسله! أول خطوة يبدأ الإنسان بها: إساءة الظن، فيبدأ يراقب، ويتتبع العثرات، ويتجسس، ويبحث عن العورات، ولعله يسجل عليك، لم كل ذلك؟ لأنه أساء الظن بداية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢] ما الذي يحصل بعد الظن؟ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:١٢] ثم بعدها بدأ يتجسس، ويجلس في المجالس، ويقول: لقد رأيت فلاناً يفعل كذا وكذا، وفلان الذي يدعي أنه داعية إلى الله، وأنه صالح، وأنه مصلح أتعرفون ماذا يصنع في بيته؟ وماذا عنده؟ وماذا فَعَل في العام الماضي؟ ثم يبدأ يغتابه {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:١٢] وقالوا عن ميمون -وهذه قاعدة فاعمل بها، ويكفي من هذه الكلمة هذه القاعدة، وميمون هو أحد القراء، يقولون-: كان لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً عنده يغتاب، بل كان ينهاه وإلا قام وتركه.

وأنت جرب هذا من هذه اللحظة، أمسك لسانك عن غيبة المسلمين، فإن اغتاب رجل فانصحه بالتي هي أحسن، وقل له: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، دعنا من الناس، فإن عاد فعد وقل: يا أخي! بارك الله فيك، لنتكلم بما ينفعنا وما يفيدنا، ولا نأتي بأسماء الناس في مجلسنا، ونغتاب الناس.

فإن انتهى وإلا فقم واتركه.

إني أدعوك إلى هذا الصنيع، وقد تقول: لا أستطيع.

أقول لك: بل إنك تستطيع، ووالله الذي لا إله غيره، لو طبقنا هذه القاعدة لانتفعنا خيراً الكثير، ولعلمنا حقاً أن أكثر مجالسنا لا تنفع، إلا ما ذكر فيها الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١] أتظن أن الكلمة عندما تخرج تذهب! لا.

بل {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦] هذه هي المصيبة؛ أننا نسينا في الجد كم تكلمنا؟ لكنَّ الله جلَّ وعلا قد أحصى ذلك كله، يقول الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد].

وأرجو أن تتأمل معي في هذه اللحظات كم من رجل كان يدعو إلى الله، وكان من رواد المساجد، بل كان لا يترك الصف الأول في صلاة الفجر، وربما يجلس إلى الشروق، وكان يقرأ القرآن، وكان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أين هو الآن؟ ما الذي جرى له؟ وما الذي حصل؟ لو رأيت إلى أكثرِهم لوجدت أن السبب هو الغيبة، كان لا يتورع عن غيبة الناس، بل إن بعضهم كان يغتاب الدعاة إلى الله، والعلماء، والمصلحين، فأصابه ذلك السم، قال الحسن: [الغيبة أسرع في دين المؤمن من الآكلة في الجسد] أرأيت الآكلة؟ هي الآن مثل السرطان، الرجل سليم -ما شاء الله- ليس فيه شيء، ولكن لحظة من اللحظات وقع، يُفحص جسمه فإذا السرطان قد انتشر فيه، ويقول الطبيب: سيبقى أياماً ثم يموت، انتهى أمره!

إذاً: الغيبة أسرع في الدين من الآكلة في الجسد، ويقول أحد السلف: إذا رأيت الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه فاعلم أنه قد مُكِر به.

جعل يتكلم على الناس ونسي نفسه، فيا من تتكلم على غيرك بالسوء هل نسيت نفسك؟! سبحان الله! يرى أحدكم القذا في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه! يحاسب أخاه لأنه قد أخطأ في شيء قد اجتهد فيه، أو زلَّ في أمر لم يقصده، وينسى جرائمه وفضائحه! تجده لا يصلي الفجر ولا يهتم بها، وتجده عاقاً لوالديه ويستهين بهذا الأمر، وتجده قاطعاً للرحم؛ وهذه كلها كبائر ملعون صاحبها، فلا يبالي بهذا كله، ولكنه يشتغل بأعراض الناس ويتكلم عن سوآتهم.

قال: إذا رأيتم الرجل ينشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فاعلموا أنه قد مكر به.

هذا الرجل مستدرج، وقد مكر به، فانتظر عليه أياماً وشهوراً وسنوات، فسوف يأتي يوم وتسمع خبره، لأن أولئك العلماء وأولئك الصالحون لما تكلموا بهذه الكلمات رأوها بأعينهم قبل أن يتكلموا بها بألسنتهم، سنة الله في خلقه، بل (من تتبع عورة أخيه -تكلم في عورته- تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر داره) والله يقول: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:١٠ - ١١] فكل شيء يُكتب وسوف تحاسب عليه عند الله جلَّ وعلا.