للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الإنسان في الحياة البرزخية]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:

أما بعد:

اليوم الآخر كلمة طويلة عريضة، ولعل من اسمها يتبين أنه لا يوم بعده، وتبدأ أول مشاهد هذا اليوم بحادثة مثل هذه الحوادث، فاستمع إليها يرحمك الله، قد يكون هذا الرجل يبدأ يومه وهو على الفراش طريحاً، وقد أحس بالروح تخرج، ولعله بدأ يحس بالنزع، وهذا هو النزع الأخير، ولربما تكون زوجه بجانبه، وأولاده عنده، ولربما بكت البنت وسقطت على حضنه، فقالت: أبي، ما لك لا تجيب؟

ولعل زوجه تنوح، وأبوه ينادي بالطبيب، وأخوه يناديه، ولعل الطبيب قد جاء، وحاول أن يرجع الروح إلى صاحبها، ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:٢٦] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٧ - ٢٨] ظن: أي علم وتيقن أنه الفراق، فراق ماذا؟

فراق المنصب فراق الدنيا فراق السيارة فراق الزوجة فراق الأهل فراق الأولاد والأحباب فراق البيت والأثاث فراق الأصحاب فراق الدنيا بما فيها: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٨] ثم لما مات وخرجت الروح من صاحبها ومن الجسد حمل على الأكتاف ولف في الكفن: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] إلى أين؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٣٠] هنا تبدأ أول مشاهد اليوم الآخر، ولعل هذه ميزة حسنة اسمع إلى تلك الميزة التي بدأ فيها ذلك الإنسان يومه الآخر بأسوأ ما يكون، واسمع إليها لا ندري كيف تكون نهايتنا؟

هذا رجل -أجلكم الله- كان في هذه البلاد لا يحصل على ما يريد، فسافر إلى دولة إباحية تعطيه كلما يشتهي، فجاء إلى أحد الفنادق، فحجز له غرفة، ثم طلب زجاجة الخمر -أم الخبائث، أم الفواحش، الخمر الرجس النجس، ذلك المشروب الذي حرمه الله جل وعلا- فأخذ يشرب ثم يشرب ثم يشرب بعد حرمان طويل، حتى جاء -أجلكم الله- إلى غرفة دورة المياه ليخرج ما شربه؛ لأنه أحس بالغثيان والإعياء، وبعد ثلاثة أيام طرقوا عليه الباب فلم يفتح، فكسروا عليه الباب، فإذا -أجلكم الله- رأسه في مصرف المجاري، وقد زهقت نفسه قبل ثلاثة أيام، وأنتن جسده ورأسه في مصرف المجاري: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] يا رب! ساعة فقط يا رب! ساعتين فقط، أصلي جميع الصلوات التي فاتت أرجع الأموال التي أخذتها من الناس ظلماً إلى أهلها أتوب من جميع الذنوب والمعاصي، فيرد الله عليه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:١٠٠] أي: كلمة يقولها طول عمره لكنه كاذبٌ فيها،

يذكر هذا الرجل أنه لما أصيب بمصيبة بكى، فقال: يا رب! لئن كشفت عني هذه المصيبة أتوب وأصلي والتزم دينك، فلما انكشفت عنه المصيبة رجع كما كان، أراد أن يفضح، رجع إلى ربه وتوسل إليه: يا رب! لئن سترت علي لأفعلن وأفعلن، ستر الله عليه فرجع إلى حاله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].

رجل أصيب بمرضٍ شديد، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، سمع المؤذن قالوا له: يا أبتاه، أنت رجلٌ مريض وقد أعذرك الله، صل في البيت، قال: لا إله إلا الله، أسمع حي على الصلاة ولا أجيب، أسمع حي على الفلاح ولا أجيب، احملوني إلى المسجد، فحملوه إلى بيت الله جل وعلا، وهو رجل كبير في السن، وأوقف في الصلاة، فلما صلى مع الإمام وكان في السجدة الأخيرة قاموا من الصلاة فإذا نفسه قد فاضت إلى بارئها، وقد ختم الله جل وعلا له في سجوده بين يديه هل يستوي هذا وذاك؟!

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٦] هل يجعل الله ذلك الذي يبعث وهو ساجد، وذلك الذي يبعث وهو ملبي، وذلك الذي يبعث وهو صائم، وذلك الذي يبعث وهو يطيع ربه يقرأ القرآن، وذلك الذي يبعث وهو بين يديها، أو عند فرجها أجلكم الله، أو يبعث وهو سكران يشرب الخمر، أو يبعث وهو تاركٌ للصلاة، هل يستوي ذلك وذاك؟!

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٨] نعم! هم في الدنيا سواء، هذا في كرسي جوار هذا، ويحصل على المال مثل هذا: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:٢٠] ولكن اليوم الآخر هو الفصل، والموعد، وهو الذي يفرق الله فيه بين الناس.