[نسيان المصير]
ومما يلهينا: نسيان الموت والمصير.
هل تفكرت يوماً في مصيرك يا عبد الله؟! لو كنت طريح الفراش، سل نفسك؛ لربما تكون هذه حالتك، وسوف أروي لك حالة يمر بها أكثر الناس بل كلهم، هذا رجل على الفراش، أحس بأمر غريب، رأى شيئاً عند ظهره أو عند رأسه جالساً، قال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، أنا ملك الموت، قال: ما الذي جاء بك؟! قال: جئت لأنتزع الروح -لأقبض الأمانة- فقال له: انتظر قليلاً، قال: ولم؟ قال: انتظر عندي بعض الذنوب، عندي أفلام أريد أن أحرقها، وعندي أموال ربوية سوف أتصدق بها، انتظر قليلاً ما صليت الفجر اليوم، انتظر قليلاً لم أغتسل من جنابة، انتظر لقد اغتبت أناساً وأخذت أموالهم وظلمتهم ولم أتحلل منهم، انتظرني قليلاً قال: كلا.
فإذا بالروح تنزع، وإذا بمن دخل عليه يصيح؛ دخلت أمه تبكي ودخل أبوه، ودخلت زوجته، ينظر إليهم لا يستطيع أن يرد على أحدهم.
البنت الصغيرة انطرحت على صدره تقول له: يا أبي ما لك لا تجيب؟! الولد يقول له: يا أبي ألم تعدنا بالسفر؟! ألم تعدني بتلك السيارة، وبهذه اللعبة؟! يا أبي ما لك لا تجيب؟! ينظر إلى زوجته الثكلى، تقول له: يا فلان لمن تتركنا؟ والأب قد جاء بالطبيب، والأم تنوح، وينظر إليهم ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٦ - ٢٧] فجاء الطبيب يحاول علاجه ولكن: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٨] فراق البيت والأثاث، أم فراق الأولاد والبنات، لمن تتركهم يا عبد الله؟! فراق القصور، والسيارات، والشهادة، والمنصب، والأرصدة، والزوجة، والوالد، والوالدة: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٨] فإذا به بعد لحظات يغسل، ثم يوضع في الكفن {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٩] ثم حمل على الأعناق؛ إن كان فاجراً يصيح: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:٣٠] ثم وضع في القبر فيا ويله! {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:٣١ - ٣٢] يا ويله ما صلى الفجر، ولا صلى العصر، ولا حافظ على الدين.
يا ويله! خرج إلى حفرة ولا زال يترك بعض المعاصي والذنوب! يقول عند الوفاة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩] يقول: يا رب لحظة، يا رب ليلة واحدة فقط، تظنه لو رجع يقبل أولاده، أو يعاشر زوجته، أو يسكن قصره، أو ينفق أمواله، لا ورب العزة، يريد أن يرجع لأجل شيء واحد {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].
فإن لم يكن هو، فكن أنت يا عبد الله، والله يريد أن يرجع فلا يرفع رأسه عن السجود، ولا يقطع لسانه عن ذكر الله، يريد أن يرجع فيبكي الدم وليست الدموع توبة من تلك المعاصي والذنوب ولكن: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] كان في الدنيا كثيراً ما يقول: يا رب لن أعود إلى المعصية، أو بعد سماع هذه الكلمات يقول: وعزتك وجلالك لأحفظن على الفجر، وأقوم الليل، وأعتزل الفجور والمنكرات، فإذا به بعد يوم أو يومين يرجع كما كان، كلمة هو قائلها.
أصيب بمرض، فقال: يا رب! لئن شفيتني من هذا المرض والله لأتوبن ولأنبيبن إليك، وبعد أيام لما شفاه الله رجع كما كان، كلمة هو قائلها؛ كذاب: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].
أسألك بالله أن تذهب إلى المقبرة، لست على موعد، ولا تقصد فقط اتباع الجنازة، اذهب لوحدك، واجلس عند القبور واسأل أهلها، وانظر هل يجيبوك؟
أين جمال وجوههم، وكيف صنعت بها الديدان؟ أين قوة أجسادهم، وكيف فعلت بهم الأرض؟
يا عبد الله! سلهم: أين الملوك؟ أين العظماء؟ أين أهل القصور؟ أين أهل الأموال؟ أين أهل النساء؟ ماذا فعلوا في القبور؟ عبد الله سلهم واجلس عندهم، هل يجيبك أحد؟
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيمن مضى معتبر