[الابتلاء والصبر]
الميزة الثالثة: والثالثة انتبه إليها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس الخطط، وكان الله عز وجل يعلمه خطط المشركين، خطط كثيرة: استهزاء سخرية اتهام ضرب عنف مداهنة إغراء هذه وسائلهم وخططهم، وكان الله عز وجل يعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يدرس النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه الخطط، وكانوا يتخذون لكل خطة مسلكاً.
فبعض المرات كان يقول للصحابة: اسكتوا الآن، لا أحد يظهر دينه، وبعض المرات كان يأمرهم بالإظهار، وبعض المرات هو الذي يظهر ويصدع، وبعض المرات لا، يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتخذ لكل مشكلة حلاً.
وقد قالوا عن أفضل الخلق أنه كذاب والأمر صعب جداً يا إخوان! بعد أن توصف بأنك الصادق الأمين طوال هذه السنوات، ويضع الناس أماناتهم عندك يأتون ويقولون لك: أنت كذاب، وأنت كاهن، وأنت ساحر، بل جاءهم بأعظم البينات: القمر، قال: (اخرجوا معي -فخرجوا إلى البر، فشق الله عز وجل لهم القمر فلقتين، فلقة أعلى الجبل وفلقة دون الجبل- فقال لهم: انظروا، اشهدوا، ترون القمر ينشق أمام أعينكم.
فأدبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سحرنا محمد، سحرنا محمد) {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:٢ - ٥].
كان يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوهم في المجالس فيقولون: أنت ساحر، أرسلوا إليه الوليد بن المغيرة، وهذا أحد فصحاء قريش وشعرائها، قالوا له: اذهب إلى محمد، فقل فيه قولاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ القرآن، فرجع إلى المشركين قال: -عن هذا القرآن- والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه -هذا القرآن، والحق ما شهدت به الأعداء- فقالوا له: قل فيه قولاً، فكر، وحسب الأمر وقدره، وعبس، وتضايق -ماذا يقول؟ - فأدبر عن المشركين ثم التفت إليهم فقال: قولوا ساحر، فرق بين الولد وأبيه، وبين المرأة وزوجها، قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:١١ - ١٢] الوليد: {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:١٣] كان يمشي وأبناؤه عن يمينه وشماله، يفتخر بهم، ومع هذا ما اتعظ: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:١٥ - ١٧] مكان في جهنم، انظر الوعيد، لمه؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:١٨ - ٢٠] لعن لأنه قدَّر هذا التقدير {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:٢١ - ٢٤] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:٥] سحر؟! تعرفُ يا وليد أنه كلام الله حق، وأنه لا يُعلى عليه! {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٤ - ٢٥] ثم توعده الله عز وجل بعدها: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:٢٦ - ٢٨] خطط عظيمة جداً.
يقول ابن مسعود: [أول من أظهر الإسلام سبعة، كل منهم كان عنده من يحميه إلا بلالاً -يقول: بلال لم يكن عنده أحد يحميه- كان يجر في الرمضاء على ظهره والحجر على صدره وهو يقول: أحد أحد].
يقول: بعض الصحابة أعطاهم ما أرادوا -كان ينطق بكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان- إلا بلالاً، فـ بلال لم يقلها، كان يقول: أحد أحد.
بعض الصحابة كان يُلَف بالحديد ويُسحب في الشمس الحارة.
بعضهم يا إخوة كان يوضع على الجمر.
وانظر حالنا، لعله لو يوقَف المعاش يبيع الدين!
لو الزوجة تحزن والله أول ما يضع اللوم على اللحية!
لو ينقص شيء من ماله يقول: خَلِّ دعوتك لك!
لو يُهان إهانه قليلة جداً يترك الدعوة شهراً كاملاً، سبحان الله! حال غريب عجيب!
كان يوضع على الجمر حتى يطبخ الجلد.
كانوا يأتون بأسياخ الحديد تحمى في النار ثم تكوى بها الظهور، أتعلم ما هو الكوي؟ بعض الصحابة كان يفتخر أن ظهره قد كُوِي في سبيل الله.
بعضهم كـ عمار يرى أمه أمام عينيه يطعنها أبو جهل برمح في فرجها حتى تموت.
الأمر صعب جداً يا إخوان! الخيال سهل أن تتخيل، لكن الحقيقة مرة وصعبة جداً، صعب جداً أن تربط في رقبتك بحبل وتمر بالشوارع ويتبعك الأطفال والعبيد يرمونك بالحجارة فتصبغ الأرجل بالدماء ولا أحد يسأل عنك، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمار وأهله فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عندي شيء- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ اصبروا، فما عندي شيء، انظروا هذا الذي أراده الله عز وجل منهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣].
حصار الشِّعب، أتدري ما هو حصار الشِّعب؟ وما أدراك ما حصار الشِّعب؟ (مرت علي ثلاثون ليلة ما عندي أنا وبلال إلا طعام يواريه إبط بلال) يخفي بلال الطعام تحت إبطه حتى يأكلونه، أتدري ما هو حصار الشعب؟! والله لو تتخيله لن تتصوره حقيقة، حصار فيه الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، يبكي الأطفال من الجوع وينظرون إلى المشركين يتلذذون باللحوم والأطعمة، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، أحد الصحابة كان يبول في الليل من شدة الجوع، فارتد بولُه -عندما بال كأنه أحس أنه يبول على شيء- فتلمسه فأخذه فإذا هو جلد يابس، فأخذه فحرقه ثم فتته، ثم خلطه بالماء ثم شربه، من شدة الجوع، أتعرف أن أوراق الشجر تؤكل في حصار الشِّعب؟ إنه حصار عظيم ابتلي فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً.
ما نفع هذا الأمر: التعذيب السخرية الاستهزاء الضرب حتى إن أحدهم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كـ أمية عليه لعائن الله، فيخنق النبي صلى الله عليه وسلم برداء فما يأتي إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيدفعه عنه ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:٢٨] فيأتون إلى أبي بكر فيضربونه بنعلين عليه رضوان الله.
حتى قيل: (في أحد الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة -انظروا التعذيب يا إخوان، لا يضرك نقص المعاش، لا تضرك الإهانة، لا تحزنك تلك الكلمة التي صدرت من الأهل أو من الجيران أو من الصحف، لا، لا تضرك، اسمع إلى الأوائل وإلى قصصهم وسيرهم- النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة والأشراف جالسون -أشراف قريش، وما هم بأشراف- فبعضهم يقول: من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيطرحه على رقبة محمد وهو ساجد، فيذهب أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فيأتي بسلى جزور -قذارة من البعير- ويرميها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فما يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه، حتى الصحابة ينظرون، لا أحد يستطيع أن يتحرك فقد كتموا إسلامهم، فما تتحرك إلا فاطمة وهي تبكي رضي الله عنها، فتركض إلى أبيها عليه الصلاة والسلام فتدفع عنه ذلك الأذى، فأكمل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهي تبكي رضي الله عنها وأرضاها، وهو يقول لها: لا عليك يا بنية، ثم قام يدعو فقال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ عمرو بن هشام، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط، وأخذ يسميهم، يقول الراوي: ولقد رأيتهم صرعى في يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:٤٥].
نعم، إنه الصبر والابتلاء.
أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالإغراء: (إن أردت ملكاً ملكناك -ما نفع التعذيب- إن أردت امرأة زوجناك أجمل النساء، إن أردت مالاً أعطيناك من أفضل أموالنا -ماذا تريد؟ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:٩]-حتى يرسلون أبا طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يغري النبي صلى الله عليه وسلم -ما ينفع- أتاه عتبة بن ربيعة يقول: ماذا تريد؟ تريد أي شيء نعطيك إياه، لكن كف عنا ما أنت فيه، اعبد الله وحدك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتهى: أوَانتهيت؟ قال: نعم.
قال: اسمع الآن.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:١ - ٤] وأخذ يقرأ، قال: حسبك، فخرج عتبة مولياً إلى بيته، فأغلق عليه بيته، يقول المشركون: والله إن به بأساً -يعني: أثر محمد في عتبة - فذهبوا إليه، فقال: والله خشيت أن تنزل عليكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كفوا عنه).
أتوا يغرونه لكن ما نفع هذا الأمر، وهذا يحصل في هذه الأيام، قد يكون بعض الأيام التعذيب والسجن والضرب ما ينفع عند بعض الدعاة، فيأتون إليهم بالإغراءات كما قال ابن القيم: كان يفعل النصارى بالمسلمين هذا الأمر، يأتون إليه في السجن بأجمل الطبيبات، لتداويه وهو في السجن وهي تفتنه، فتداويه وتطببه وتسهر على راحته، فبعضهم يفتن.
ما نفع معه السجن ولا التعذيب ولا الضرب، ما زاده إلا صلابة، لكن الفتنة قد أردته.
رجل يسمى سعيد الحلبي، وهو أحدالعلماء، كان جالساً في المسجد ماداً رجليه، وكان به وجع في رجليه، وكان يدرس التلاميذ، فدخل الباشا في ذلك اليوم، فقام إليه الناس، هذا يقبل يده وهذا يوسع له الطريق، وهذا يحيه وهذا كذا، والناس هذه عادتهم، إلا هذا الشيخ فاستمر جالساً مكانه مستنداً إلى اسطوانة المسجد وماداً رجليه باتجاه الباب، فنظر إليه الباشا فغضب، فلما ذهب إلى قصره، قال للحارس: اذهب بهذا المال -صرة بها مال- إلى ذلك الشيخ، وإن سألك فقل له: إن الباشا يريد أن يكرمك للعلم الذي عندك، فأتى ذلك الرجل بصرة المال، فدخل على سعيد الحلبي وهو شيخ كبير فأعطاه المال، فقال له: ما هذا؟ قال: الباشا يسلم عيك، ويقول لك: هذه هدية لك، فقال له: خذ المال وارجع به إليه، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه.
كلمات عظيمة جداً!
إغراء! {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:٩] تريد منصباً نعطيك منصباً، تصير وزيراً لكن تَنازَل، بعض الناس يفتن والله، وليس هو وزيراً، بل لعله منصب تافه جداً، وكل الناس يحصلون عليه، ولكنها الفتنة، وضعف الإيمان.
تريد أن تصبح دكتوراً، نعطيك إياها؛ لكن الأمر يحتاج إلى بعض التنازلات، وهذه المصيبة قد يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام.