للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الأشقياء في النار]

فيدخلونها {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:٣٨] يدخلون فينظرون إلى الذين أضلوهم في الدنيا؛ ينظرون إلى رؤسائهم، وإلى قاداتهم، وإلى أخلائهم، ينظرون إليهم قد سبقوهم في جهنم {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:٣٨] يدخلونها، بعد أن يحاسب الكافر فيدخل جهنم يقول له صاحبه أول ما يدخل جهنم: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص:٥٩] فيرد عليهم أصحابه في الدنيا {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:٥٩] أول تحية {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:٥٩] فيتلاعنون، ويسب بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، فأول ما يتقي بوجهه النار، أما يداه فمغلولتان، قد شدتا بالسلاسل، فيريد أن يتقي النار فلا يتقي النار إلا بوجهه، أكرم شيء عنده في الدنيا، لطالما كان يجمل وجهه، ولطالما كان يحسن وجهه، ولطالما كان يتقي الحر عن وجهه.

أما جهنم: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر:٢٤] * وقال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:١٠٤] الوجه الذي هو أشرف مكان في الجسد {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:٤٨] أين ذلك الوجه؟ أين زينتك على وجهك؟! أين طيبك الذي كنت تضعه على الوجه؟! أين الجمال؟! {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:٥٠] انظروا إلى ذلك الموقف الذي تقشعر لهوله الأبدان، ذلك الوجه الذي طالما كان يجمله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} [الأحزاب:٦٦] كالسمك على النار يشوى، كيف تقلبه على النار؟ هكذا تقلب وجوههم {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:٦٦ - ٦٨] ولكنهم لا ينفعهم الكلام، فإن جهنم أحيطت بهم {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩] {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:٥٥].

وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:٤١] فراش من جهنم {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] لحافٌ من النار، ووجوهٌ قد غطيت بالنار، وجهنم تحيط بهم، حتى إن النار لتصل إلى قلبه {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:٤ - ٧] تطلع: تصل {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:٨] إنها: أي جهنم {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:٩].

يريد أن يأكل في جهنم، لقد طال جوعه يقول بعض السلف: إن الجوع في جهنم يصل عذابه إلى عذاب النار، حتى استغاث بالطعام {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٢ - ٦٥] طلعها: ثمارها، أتظنونهم لا يأكلون منها؟ {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:٦٦ - ٦٧] ويأكلون طعاماً {ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:١٣] يقول ابن عباس: [يأكلون الطعام من شوك يتعلق في حلوقهم لا هو يخرج منها ولا يدخل] طعام؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:٦] نفيس الشبرق اليابس من شوك يأكلونه {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:٧] طعام يأكلونه {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:٣٥ - ٣٦] يقول ابن عباس: [إنه صديد أهل النار] يأكلونه رغماً عن أنوفهم {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٣٦ - ٣٧] وحينما يأكل الشوك والغسلين عندها يحس بأنه يحتاج إلى الماء فيستغيث بالماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:٢٩] يقرب ماء المهل إلى وجهه، فإذا أراد أن يشرب من شدة حره تسقط فروة رأسه، وينسلخ جلد وجهه إذا قرب وجهه المهل، لكنه يشربه، يقول تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:١٥] يشرب الماء يريد أن يستغيث به من طعام الشوك؛ لكن الماء يسقط فروة رأسه، فيدخل به إلى أمعائه فتتقطع به الأمعاء، ثم يحرج من قدمه {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:١٦] قال مجاهد: هو القيح والدم وصديد أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:١٧] يريد أن يشرب، لقد أصابه العطش، لقد أهلكه العطش {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:٢٤] ينقذهم الله عز وجل بشراب يشربه أهل النار {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:٢٥] ماء قد انتهى حره، أتعلم ما هو الغساق يا عبد الله؟!! إنه السائل الذي يسيل من فروج الزواني {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:٢٤ - ٢٦].

يلبس ثياباً من النار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:١٩] {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ} [إبراهيم:٤٩ - ٥٠] يا من كنت تلبس الحرير! يا من كنت تسبل ملابسك في الدنيا وتجرها خيلاء! {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:٥٠] سرابيلهم: ملابسهم.

وقطران: نحاس مذاب يلبسونه وثياب من نار، نسأل الله العافية.

حتى إذا اجتمعوا في جهنم وعلموا أن النار قد أحاطت بهم، علموا أنه لا نجاة إلا بالله، ولا فرار إلا إلى الله، كانوا في الدنيا لا يلجئون إلى ربهم، يسمعون حي الفلاح فكانوا لا يلجئون إلى الفلاح، يسمعون الله أكبر وكانت الدنيا عندهم أكبر، يسمعون أن الربا حرام ويأكلون الحرام، ذلك موقفٌ يلجئون فيه إلى الله فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:٣٧] نصلي لك يا رب، نقيم الصلوات في المساجد، نأمر أهلينا بالحجاب وبالصلاة، أخرجنا منها {نَعْمَل صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:٣٧] فيرد الله عز وجل عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:٣٧] أولم نعمركم حتى وصلتم إلى مرحلة البلوغ؟ ألم يظهر ذلك الشيب؟ ألم يأتك النذير؟ ألم تسمع يا غافل أن الربا حرام، وأن الزنا حرام، وأن النظر إلى النساء حرام، وأن الصلاة واجبة، وأن الدعوة إلى الله واجبة؟! {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧] حين ذلك ينادون مالكاً خازن النار: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] لنمت في هذه النار، كانوا يحرصوا على الحياة، كان يتمنى الحياة، إذا مرض ذهب إلى الطبيب، كان لا يريد أن يذهب إلى صلاة الفجر؛ لأن الجو بارد، كان لا يريد أن يتوضأ؛ لأن الماء بارد، وكان لا يريد أن يدعو إلى الله، ويخاف على صحته، يخاف على ماله من الفقر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] فيجيبهم مالك بعد ألف عام: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٧ - ٧٨] بعد ذلك ينادون الله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك عند الله عز وجل وبيده خلاصهم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦] الآن يعترفون، الآن يندمون، الآن يتذكرون أنهم كانوا ظالمين {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧] فيرد الله عز وجل عليهم: {قَالَ اخْسئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] بعد ذلك لا يتكلمون، فيرجعون ولهم مقامع من حديد إلى النار خالدين فيها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:١٠٦ - ١٠٧].