[صبره على تحمل الأذى من أجل الدعوة]
هاهو يأتي يوماً من الأيام فيسجد عند الكعبة، فيأتي أشقى القوم ويلقي على ظهره سلى الجزور، ولا تأتي إلا ابنته فاطمة رضي الله عنها فتزيل عن ظهر أبيها سلى الجزور وهي تبكي، فيتم صلاته عليه الصلاة والسلام، ثم يستقبل القوم فيدعو عليهم واحداً واحداً.
يأتي يوماً من الأيام يطوف بالبيت وحول البيت الأصنام والأوثان، فيغمزه المشركون ويستهزئون به.
يأتي أشقى القوم يوماً من الأيام فيخنقه حتى كاد يقتله عليه الصلاة والسلام، ولا يدفعه عنه إلا أبو بكر أشجع الناس رضي الله عنه يدفع الفاسق المشرك وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:٢٨] فاستقبل المشركون أبا بكر فضربوه حتى أدموه، حتى لم يعرف رأسه من قفاه من شدة الدم، وظن الناس أن أبا بكر قد مات، فحمل إلى بيته فطببته أمه ولم تكن أسلمت في ذلك الحين.
فلما استفاق فرحت أمه، قالت: يا بني! اشرب شيئاً، يا بني! ذق شراباً، وكل شيئاً من الطعام، قال: لا والله! حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأرسلها إلى إحدى النساء فذهبت، قالت: لا أعرف رسول الله ولا أعرف ابنك.
فجاءت بها إلى أبي بكر، فقال لها أبو بكر: ماذا صنع رسول الله؟ قالت: أمك موجودة -وقد كتمت إيمانها تلك المرأة- فقال: لا عليك إنما هي أمي، أخبريني عن رسول الله، قالت: هو بخير، قال لها أبو بكر: احمليني إليه، فلما هدأ الناس، وسكنت الأصوات، حُمِل أبو بكر بين أمه وتلك المرأة إلى رسول الله.
وكان رسول الله مستلق وحوله أصحابه الذين كتموا إيمانهم، فلما فتح الباب دخل أبو بكر على رسول الله يقبله وهو يبكي، والصحابة ينظرون، وبكوا من هذا المنظر، فقال أبو بكر: كيف أنت يا رسول الله؟ قال: ليس بي بأس يا أبا بكر! كيف أنت يا أبا بكر! قال: لا بأس بي إلا ما صنع الفاسق من وجهي، يا رسول الله! هذه أمي جاءت مشركة، فادعُ الله لها، فدعا الرسول لها، فلفظت أم أبي بكر الشهادتين، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
غمزوه ولمزوه وسخروا به، بل وضربوه، وخنقوه، وكادوا يقتلونه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:٣١].
أوذي، وخُنِق، ومُنع من الدعوة إلى الله، حتى قال فيه أبو لهب لما دعاهم على الصفا: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟
يستقبل الناس في الحج فيغلقون آذانهم، ويغطون رءوسهم، يدخل عليهم خيامهم خيمة خيمة عليه الصلاة والسلام، يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فيدخل بعده رجلٌ أحول، وضيع الوجه، إنه عمه أبو لهب، يدخل خلفه فيقول: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه مجنون، إنه كذاب، إنه ساحر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الفرقان:٣١].
هاجر إلى الطائف يدعوهم إلى الله، فردوه، وتبعه العبيد والسفهاء بالحجارة، هل دعا عليهم؟ هل طلب من ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين؟ أو دعا على قريش؟ لا وربي.
رفع يديه إلى الله، وقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني! أم إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي).
يخرج وهو مهموم، لم يفق إلا بـ قرن الثعالب، (يجلس عند إحدى المزارع، ويرسل إليه أحد المشركين خادماً له اسمه، عدَّاس يأتيه بشيء من العنب، وكان شاباً نصرانياً، فجلس عند رسول الله وقد أدميت قدماه الشريفتان، وسال الدم منهما، فجاء عدَّاس بالعنب إليه، فسمى الله رسول اللهَ فأخذ عدَّاس يسأله، فإذا بالنبي يجيب، فقال له النبي: من أين أنت؟ قال له عدَّاس النصراني: أنا من نينوى، قال: سبحان الله! من بلد النبي الصالح يونس بن مَتَّى، قال: ومن أخبرك بيونس بن مَتَّى؟! قال: إنه أخي، إنه نبي وأنا نبي مثله، فانكب عدَّاس على رسول الله يقبله وهو يبكي) علم أنه لا يعلم عن نبي الله يونس إلا نبي مثله، ورجع النبي إلى بلده.