[خروج العاصي من قبره إلى المحشر]
هل ينام؟ هل الوقت عليه قصير؟
لا والله! يجلس مع الذي بجانبه والقبر قد اختلف عليه حتى اختلفت أضلاعه، ويأتيه من حر النار وسمومها إلى قيام الساعة، ثم بعدها إذا بالقبر ينشق، فإذا به يخرج من قبره ماذا يقول؟ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:٥٢] فيرد عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:٥٢] وعندما يخرج ماذا يرى؟
الناس يخرجون من قبورهم، فتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، والطفل الصغير الذي لم يذنب قط قد شاب شعره ما بالكم بالذي يأتي في الليل، ويغلق على نفسه الباب، ويفعل ما يفعل؟! ما بالكم بالذي لا يصلي الفجر إلا في الشهر مرة أو مرتين!! ما بالكم بالذي يجلس ويغتاب الناس! ما بالكم عباد الله بالذي يعق والديه، تقول له أمه: افعل كذا؟ فيقول: لا أفعل! ما بالكم إذا كان الطفل الصغير يشيب رأسه!
أيها الناس! هلموا إلى ربكم، يقف خمسين ألف سنة قف لحظة وفكر ما معنى خمسين ألف سنة؟ كم سنة مضت حتى الآن؟ عشرين ثلاثين، اسأل من عمره سبعين أو ثمانين سنة؟ ماذا يقول مع أنه ينام ويتنعم ويشعر ببعض النعيم، ولكنه يقول: مللت من الدنيا! فما بالك بمن يقف على رجليه خمسين ألف سنة {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] لو كان تحت الظل لهان الأمر، لكن تخيل! الشمس تدنو بمقدار ميل، والعرق يتصبب على قدر الذنوب، في ذلك اليوم تبدأ الحسرات، بعضهم يبكي فيقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهَِ} [الزمر:٥٦] كان يدعونني الصالحون ويقولون لي: تعال معنا إلى الدرس إلى المسجد إلى الصلاة إلى العمرة، كانوا يدعوني إلى الصلاح، يا حسرتى! هل تنفع الحسرة؟
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةَِ} [مريم:٣٩] سماه الله يوم الحسرة لأن الناس كلهم يتحسرون؛ والواحد منا إذا تحسر عض على إصبع أو على اثنين أو على ثلاث، لكن هذا يدخل كلتا يديه في فمه ثم يعض عليهما {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:٢٧ - ٢٨] يسميه باسمه، زيد أو عمرو أو فلان، فتسميه باسمه يوم القيامة الذي أضلك عن هذا الطريق وعن هذه الهداية، وعن المسجد، وعن قراءة القرآن، وعن الصالحين، فتذكره باسمه، وتدعو عليه يوم القيامة {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:٢٨ - ٢٩] كنت صالحاً، وكنت أجلس مع الصالحين لكنه أضلني عن الذكر، وبعد الحسرات إذا به ينادى: أين فلان؟ فقد انتهت خمسون ألف سنة، وجاء الرب ليقضي بين الناس، وقبله ماذا يحصل؟ تأتي جهنم تخيل -يا عبد الله- يا من لا زلت متردداً أتوب أو لا أتوب؟ ألتزم أو لا ألتزم؟ يا من لا يزال متردداً -عبد الله- يكفيك من هذا التفكر، الناس ينتظرون، فإذا بالناس يسمعون صوت جهنم تناديهم وتزفر وتشهق {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:١٢] تجر لها سبعون ألف زمام -أي: مثل الحزام- مع كل زمام سبعون ألف ملك ما بين أذنه إلى عاتقه مسيرة أربعين سنة أو سبعين سنة.
تخيل! كل زمام له سبعون ألف ملك أتعرف ماذا يفعلون؟ يجرونها.
قال بعضهم: لو لم تكن لها أزمة لعتت وأحرقت كل بر وفاجر، فجعل الله لها أزمة، المكان بعيد إذا رآها الناس خروا جميعاً -حتى الأنبياء- على الركب يقولون: اللهم سلم سلم، اللهم نفسي نفسي {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَة} [الجاثية:٢٨] في تلك اللحظات عندما يرى جهنم {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:٢٣] في تلك اللحظة {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَان} [الفجر:٢٣] يتذكر تلك اللحظة عندما كان يأتي في الليل ويفعل ما يريد من المعاصي ولا يندم، وبعدها يتذكر تلك اللحظة، لا أحداً يراه في السوق، يختلي بالمرأة ويكلمها وتكلمه، ويواعدها وتواعده، فيتذكر ذلك اليوم، قام من الفجر واستمع الأذان لكنه رجع ونام وهو غير مبالٍ، ولا ندم ولا خاف ولا رق قلبه ولا تاب، يتذكر ذلك المجلس حين كان يجلس فيذكر فلاناً ويضحك، فلان فيه كذا وكذا، وكان يتخذ الأساليب الشيطانية الخبيثة! نعم، قال: جزاه الله خيراً لكنه يبدأ يستلمه وينهش في عرضه، يتذكر تلك الأوامر التي لم يستجب لها، وتلك المحرمات التي انغمس فيها {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:٢٣] ماذا يقول؟ {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:٢٤] نعم والله! سل أولئك الذين قضوا أيامهم مع النساء في السفرات والزنا والخنا وشرب الخمور والأغاني واجلس معهم جلسة واسألهم: هل تحسون حقاً بالسعادة؟
لا والله؛ هم أتعس الناس أتعرف ما نهايتهم؟ يرمي بنفسه من أعلى شارع لينتحر، سلوهم في السويد في أمريكا ما نهايتهم؟ يقذف بنفسه من أعلى شارع، أو يشنق نفسه لم؟
لأنه لم يشعر بالسعادة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٤] هل حس بالسعادة في الدنيا؟ لا والله؛ ضيق في الدنيا، ثم ضيق في القبر، ثم ضيق يوم القيامة، ومصيره إلى النار.
سل أولئك: ما أسعد يوم عندكم في حياتكم الدنيا؟ يقول: إنها ليالي رمضان، أين؟ يقول: وأنا في المسجد أصلي القيام هذه أحلى الأيام والليالي في الدنيا.
سله: ما أحلى الجلسات؟ يقول: جلسة جلسناها في الحرم نقرأ كتاب الله، هذه هي أمتع أيام الدنيا، سلهم: ما أحلى الكلمات التي خرجت منك؟ يقول: حين جلست يوماً أقرأ كتاب الله.
ما أحلى مجلس جلسته؟ يقول: حين جلست أستمع إلى ذلك الرجل عندما كان يحدثنا وننتصح بكلامه، هذه أحلى الجلسات، سله عن قلبه؟ فإذا بك تجده أشرح الناس صدوراً {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَاٍ} [هود:١٠٨] في الجنة وفي القبر ما مصيرهم؟ سعادة في الدنيا، وسعادة يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، أما ذاك فاختار الضيق في الدنيا، فهو ضيق في قبره، وضيق في المحشر.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.