للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال أهل النار في النار]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: إن الناس في هذه الأيام لعلهم يشتكون من شدة الحر، ولعل هذه الأيام هي أيام فيها عبرة وعظة للعبد المؤمن الصالح، ففي صحيح البخاري (أن النار اشتكت إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: ذلك من نفس جهنم ومن فيحها.

وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).

إن ما نجده من شدة الحر، ومن السموم هذه الأيام، إنما هو من نفس جهنم ومن فيحها، وصدق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إن للناس أسباباً مادية يرونها، ولكن فوق هذه الأسباب، أسباب وخلف هذه الأسباب تقدير من الله جل وعلا.

ثم -يا عبد الله- اعلم أن هذا الحر الذي لا يطيقه كثيرٌ من الناس إنما يدفعونه عن أنفسهم بثلاثة أمور:

إما بماء بارد يشربونه، أو ظل يستظلون به، أو هواء بارد يتكيفون به فيجلسون تحته، واعلم أن النار ليس فيها أي شيء من هذه الثلاث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:٤١].

أما الهواء: فهو السموم الحار الذي لا يطيقه أحدهم، والذي يلفح الوجوه {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:٤٢] الحميم: هو ماؤهم، إذا اقترب أحدهم منه شوى وجهه، وانسلخت فروة رأسه، وهم لا يتحملون شربه؛ بل يصهر ما في بطونهم والجلود، هذا هواؤهم وهذا ماؤهم يفرون إلى أين؟ إلى ظل جهنم يستظلون به: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:٤١ - ٤٢] ثم الظل {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:٤٣ - ٤٤] يجلسون تحت ظلها، هل سمعت بظل النار؟ إنه ظل منقطع ذو ثلاث شعب وثلاثة أقسام، يقال: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:٣٠ - ٣١] لا ظليل: أي لا ينفعهم ذلك الظل، إذا رأيت إلى ظله ليس بكريم، بل لا يغني من لهب جهنم ولا من حرها؛ لأنها تزفر وتشهق وتتطاير منها الشرارة الواحدة كالحصن وكالقصر، منظرها كالجمالة السود التي سماها الله عز وجل جمالة صفر.

عبد الله: هكذا ينجو أهل النار من حرها، إن فيها لحراً يزيد على نار الدنيا بأصناف كثيرة هل لك أن تتصور ذلك الحر؟

عبد الله: في النار يغلون بالأغلال، ويربطون بالسلاسل، ولا أظنك تستطيع أن تتخيل هذا المنظر: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:٧١] أين يا رب؟ {فِي الْحَمِيمَِ} [غافر:٧٢] الأغلال في الأعناق والسلاسل لُفت عليهم، ثم يسحبون في النار في الحميم، أتعرف ما هو الحميم؟ إنه الذي إذا اقترب من الوجوه شواها حميم الماء الذي قد بلغ من الحر منتهاه لن تستطيع أن تتصوره أو تتخيله، يسحبون وهم مغلولون بالأغلال في الحميم ثم ماذا يا رب؟ {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:٧٢] ثم بعد أن يمرون على الحميم يحرقون في النار، بم يلتحفون وماذا يفترشون؟ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌَ} [الأعراف:٤١] ينامون على جهنم، وماذا فوقهم يا رب؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] أي: يلتحفون بالنار، لم يا رب؟ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤١] يجوعون فيأكلون النار، وهل رأيت رجلاً يأكل ناراً؟! {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:١٠] بل يأكلون الغساق والحميم والغسلين والماء الصديد، وهو القيح الذي يخرج من الجروح والنتن الذي يسيل من الفروج {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:٤١] أي: أي شأن شأنهم؟ وأي أمر أمرهم؟

يا عبد الله: إذا كان الواحد منا لا يتحمل حرارة الشمس وهذه الحرارة هي: نفس من نفس جهنم، كيف -أعاذنا الله وإياكم- بمن يدخلها؟ هل هو يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين؟ إلى ما شاء الله.

عبد الله: أتدري ما هو لباسهم أسمعت به؟ إنه من نحاس منصهر يلبسونه ولا يستطيعون الفكاك منه {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:٥٠] من نحاس مذاب، بل تقطع لهم ثياب إذا رأيتها فهي نار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:١٩] ما صفتها يا رب؟ {ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:١٩]-نعوذ بالله- الثياب من نار، ويأكلون النار، ويستظلون بالنار، وينامون على النار، ويلتحفون بالنار ثم ماذا؟ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] يا رب! اقض علينا، بل قالوا لله جل علا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:١١] هل إلى خروج من سبيل؟ أتعرف من هو أهون أهل النار عذاباً؟ أهونهم وأقلهم وأيسرهم ذلك الذي يقول: صغيرة، وذلك المسكين الذي يقول: أمر هين أيام قليلة ثم نخرج من النار، ذلك الرجل يوضع في قدميه جمرة -وفي رواية: جمرتان- تعرف ماذا يحصل؟ أبعد مكان من الرجل هو الدماغ، يغلي منها دماغه، فإذا كان الدماغ يغلي فتصور ماذا يحصل للبطن، أم ماذا يحدث للفرج؟ أم ما الذي يصيب الرجل إذا كان أبعد شيء في جسده وهو الدماغ يغلي؟

يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، تخيلوا يكلمه الله، فيقول له: (يافلان! لو كان عندك ما في الأرض جميعاً أكنت تفتدي به؟ -يخاطب أهون أهل النار عذاباً- فيقول: نعم.

يا رب! لافتديت به كله يا رب! فيقول الله جل وعلا له: لقد طلبت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، طلبت منك ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) يخاطب أهون أهل النار عذاباً، حر وجحيم وغساق وغسلين وصديد وحميم ونار، ثم يخاطبون الله جل وعلا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧] فيرد الله جل وعلا عليهم: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] يظن أنه يموت فيؤتى بكبش وهم ينظرون إليه، فيقال لهم: تعرفون هذا؟ يقولون: نعم.

هو الموت الحر لا صبر عليه، والجحيم لا صبر عليه، والطعام من ضريع وغساق وغسلين، والنار لا يتحملها أحد، فينظرون إلى الموت ويظنون أنهم ميتون، فإذا بالموت يذبح، ويقال لهم: يا أهل النار! خلود فلا موت، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:٥٦] لم يا رب؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] هل ألف سنة، أو ألفي سنة، أو مليون سنة، أو ملايين السنين؟ خلود فلا موت: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:٧٤] أتعرف لم يا عبد الله؟ لأنه أبى إلا الكفر بالله، أمر بالصلاة فما صلى ولا تصدق ولا صام ولا ذكر ربه عز وجل، أراد أن يتمتع بالدنيا قليلاً، ثم سمعها: خلود فلا موت.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.