[أمية الكناني يعاتب الفاروق]
واسمع إلى أمية الكناني؛ فهذا الرجل كان شيخاً كبيراً، وكان رئيساً لقومه، وكان له ابن اسمه كلاب، هذا الابن كان باراً بوالديه -بأبيه وأمه- وكان صالحاً، فذهب إلى المدينة، وجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن أفضل ما يقرب إلى الجنة؟ فأخبروه بالجهاد -الجهاد في سبيل الله- فذهب إلى والده، وكان باراً به ومحسناً إليه، وكان يخدم والديه من الصباح إلى المساء، ويقدمهما على زوجته وأولاده، فرفض أبوه في البداية، فلم يزلْ به حتى رضي أبوه، ثم ذهب إلى الجهاد، وكان أبوه في كل يوم يتذكر ابنه، ويتذكر حاله مع ابنه، وفي يوم من الأيام رأى أبوه حمامة على الشجرة، فنظر إليها، وبجنبها فرخها، فنظر إليها كيف تحنو على فرخها، فتذكر ابنه، وأخذ يقول ذلك الشعر، اسمع إلى الأب الذي يتذكر ابنه البار، فقال:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو قبل الكتابا
إذا هتفت حمامة بطن وجٍّ على بيضاتها ذكرا كلاباً
إلى أين تركه يا عبد الله؟ تركه للجهاد، ونحن نخاطب من ترك أباه وترك أمه لأجل عمل دنيوي، أو لأجل زوجة وأولاد، أو لأجل معصية يسافر إليها.
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
تلفظ مهده شفقاً عليه وتجنبه أباعرها الصعابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغ الماء يتبع السرابا
ثم جاء إلى الخليفة، من هو الخليفة؟ إنه عمر بن الخطاب، جاء إليه هذا الأب وهذا الشيخ الكبير فدخل على عمر فهل تعرف ماذا قال لـ عمر؛ لأنه الذي أرسله للجهاد؟ قال:
فلو فلق الفؤاد شديد وجد لهم سواد قلبي بانفلاق
سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساق
وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى دقاق
إذا الفاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما زواقِ
ولما سمع عمر هذه الأبيات بكى، وأرجع الولد من الجهاد، فسأله؟ وقال له: ما شأنك وأبوك؟ فأخبره ببره بأبيه، وكيف كان يحلب لهما، ويطعمهما، ويسقيهما، ويخدمهما من الصباح إلى المساء، فلما سمع بحاله، أمره بالرجوع إلى والده، فنادى عمر والده الشيخ الكبير، وكان قد عمي من شدة البكاء، فأدخله في مجلسه، فأمر ابنه كلاباً أن يحلب له، فحلب له.
فقال عمر لهذا الشيخ الكبير: ماذا يسرك من الدنيا؟
قال: لا شيء، وأي خير أرجوه من الدنيا، قال: بل ترجو شيئاً؟
قال: أرجو أن أضم ولدي ضمة وأشمه وأقبله قبل الموت.
فقال له عمر: اشرب من هذا اللبن، فشرب من اللبن، ثم قال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! إني أجد في اللبن رائحة ولدي كلاب.
فقال له عمر: هو ذا ابنك يا فلان! فضمه وقبله، وأخذا يبكيان، فبكى عمر، وأبكى من حوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:١٦] يعني البارين بآبائهم، يعني من كان باراً بوالدته وباراً بأبيه اسمع إلى جزائه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:١٦].
هل فكرت أخي الكريم أن تدخل على أمك فتقبل رأسها وتطلب العفو منها؟ أو أن تدخل على أبيك فتقبل رأسه ويده وتطلب الصفح منه؛ وتطلب منهما أن يغفرا لك؟
هل فكرت -يا عبد الله- وحاسبت نفسك لو لقيت الله بهذا الجرم العظيم؛ جرم العقوق، وهو كبيرة من الكبائر؟ هل فكرت كيف تلقى الله به؟
عبد الله: هلا ذهبت هذه الليلة إلى أمك قبل أن تنام، وإلى أبيك قبل أن ينام، فقبلت رأسيهما، ثم طلبت الصفح والعفو منهما؟