اسمع -يا عبد الله- إلى موسى كيف قذف الله عز وجل الرعب والهيبة في قلب فرعون! فِإذا بموسى الضعيف يقف في صف مع هارون، وألوف السحرة -إن صحت الرواية- في الصف الآخر، فإذا بموسى يكلمهم وينصحهم إعذاراً إلى الله جل وعلا:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[طه:٦١] يستأصلكم ويقتلكم ويعذبكم، ويلكم! أتفترون على الله؟! قد خاب من افترى فإذا بصف السحرة يموج، وإذا بالضوضاء تنتشر، وإذا كثير من السحرة يتزعزع صفه وموقفه، خافوا من كلمتين ألقاهما موسى، وعلم بعض السحرة أن هذه الكلمات ليست بكلمات بشر، وأن فيها هيبة رب البشر؛ فإذا بالسحرة يتنازعون فيما بينهم، قال الله:{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}[طه:٦٢] بدأ الهمس بين السحرة وموسى ينظر، وحشود الناس ينتظرون، وفرعون ينظر مع حاشيته إلى ذلك الموقف، ما الذي حصل؟ همس بين السحرة، فكانوا يقولون:{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[طه:٦٣ - ٦٤] فإذا بالصف يرجع مرة أخرى، ويقفون كلهم صفاً واحداً جبارون متكبرون طغاة أمام موسى وهارون وليس معهم إلا عصا.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}[طه:٦٥] انظر إلى التحدي! فهم لجرأتهم ووثوقهم بأنفسهم يقولون: يا موسى! أتريد أن نلقي نحن أولاً أم أنت الذي تلقي عصاك؟ اختر ما تشاء يا موسى -يثقون بأنفسهم وثوقاً عجيباً- وإذا بموسى عليه السلام يرد عليهم بكلمة كالمستهزئ بهم:{قَالَ بَلْ أَلْقُوا}[طه:٦٦] ابدءوا بالإلقاء والناس ينظرون، فإذا بألوف السحرة كل واحد يرمي عصاه والوادي أمامهم، فإذا بالوادي يموج بالثعابين والحيات {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه:٦٥ - ٦٦] انظر إلى المنظر العجيب! الناس خافوا، وبعض الجمهور تراجع من شدة الخوف، فإن الوادي كله قد امتلأ بالأفاعي وامتلأ بالحيات، هذا المشهد الذي يخبر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}[الأعراف:١١٦] قذف الرعب والرهبة في قلوب الناس، بل حتى موسى عليه السلام، قال الله:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}[طه:٦٧] ولم يخف من الحيات والثعابين، إنما خاف على الناس، خاف أن يظل الناس وأن يكفروا، وخاف عليهم الناس أن يزدادوا كفراً وطغياناً ولكن انظر إلى ذلك الموقف، فرح فرعون واستبشر، نظر إلى ذلك السحر فازداد طغياناً وعتواً، فإذا بالوحي ينزل من السماء:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}[الأعراف:١١٧] وماذا عساها تفعل مع هذه الثعابين؟ فقد ملأت الوادي ألوف الحيات والثعابين قال الله له:{قٌلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ}[طه:٦٨ - ٦٩] ألق ما عندك، عندك العصا ابذل السبب، إن المعركة بينهم وبين الله جلَّ وعلا ليست بينهم وبينك يا موسى، أنت ليس عندك شيء، أنت لا تملك إلا عصاً إن المعركة ليست بين الداعية الضعيف الذي لعله سجين، ولعله مكمم فاه، ومغلوب على أمره، ليست بينه وبين تلك الحشود وتلك الأمم، وليست بينه وبين تلك الضلالات إن المعركة بين الله جل وعلا وبينهم:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:١٧].
قال الله تعالى:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ}[طه:٦٩] فيلقي موسى ما في يمينه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:١١٧] انقلبت عصاة موسى عليه السلام ثعباناً حقيقياً، فابتلعت كل الثعابين التي في الوادي {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الأعراف:١١٧].
انظر إلى المشهد الرباني:{فَوَقَعَ الْحَقُّ}[الأعراف:١١٨] يقول الله جلَّ وعلا: فوقع، وكأن الحق أمر ثقيل مستقر في الأرض يحطم ما تحته:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:١١٨] وإذا بالسحرة يندهشون من الأمر: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}[الأعراف:١١٩] تعجب فرعون من هذا المنظر ما الذي حدث؟! ما الذي جرى؟! والجمهور ينظر، والناس تستغرب من الأمر.