[قيمة الوقت وأهميته]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
عنوان هذه المحاضرة: فراغك قبل شغلك وهو عنوان واضح لا يحتاج إلى بيان، وهذه المحاضرة انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) هذا الفراغ الذي تمر به -أيها الأخ الكريم- لعلك تستغل فيه ساعة في طاعة الله جل وعلا، وما تدري؟ لعله يقال لك بعد سماعك لهذا الحديث، أو حضورك لهذا المجلس: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات).
يروى أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قال لتلاميذه: هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم سيكون ورقة؟ -لأنهم يعلمون حماسه في العلم- قال: سيكون نحواً من ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه.
سيذهب العمر ونموت وما انتهينا من هذا الدرس، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، ثم بعد أن انتهى قال لهم: أتنشطون في كتابة التاريخ من عصر آدم إلى يومنا هذا؟ قالوا: في كم؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو من ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: إنا لله ماتت الهمم! يكتبون التفسير في ثلاثة آلاف ورقة وكذلك تاريخ العالم! ومع هذا يقول: إنا لله ماتت الهمم! كيف لو عاش أبو جعفر في هذا الزمن ماذا سيقول؟ يحضر الدرس الأول مائة، ثم الدرس الثاني تسعون، ثم ثمانون، ولا يزالون يتناقصون حتى لا يبقى إلا عشرة طلاب بين شيخهم، ويقولون: هلا عجلت في هذا الدرس؟ وهلا انتهيت منه؟
يقول الله جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:١١٥] أحسب أن الله خلقنا عبثاً؟! لأجل أن نبدأ اليوم في عمل، ثم نمسي آخر النهار أو منتصف النهار ثم ننام، ثم نستيقظ لنشرب الشاي والقهوة إلى غروب الشمس، ثم لما تغرب الشمس الصفق بالأسواق، ثم نرجع بعد العشاء لنلهو مع الأهل والأولاد، ثم ننام على تلفاز، ثم نستيقظ على عمل! أتظن أن الله خلقنا لهذا؟! تعالى الله عما يظن كثير من الناس، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:١١٥] بل إنما خلقنا لغاية أعظم وأكبر من هذا، ولو أنه خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب ونلهو ونلعب وننكح ونلد فقط، لخلقنا جنساً من الحيوانات، فهي تأكل وتشرب، وتبني البيوت وتؤسسها، وتنكح وتنجب، وتعيش كما يعيش أكثر البشر، إن هذا عبث يتنزه الله عنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
أخي العزيز: إن الوقت هو الحياة، فحياتك وقتك، وكلما مر عليك يوم ذهب جزء من حياتك.
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
قال بعضهم في تعريف العمر: يا ابن آدم! إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وكل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي
وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخي العزيز: أنت اليوم تشعر بفراغ، وعندك بعض الفراغ، وسوف يأتي عليك يوم: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٧] سوف يأتي يوم لك فيه شأن وشغل يغنيك عن الآخرين.
قيل لـ سفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل لهذا اليوم.
هذا أبو الوفاء بن عقيل؛ عالم من علماء الحنابلة، يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري! ولو عاش بيننا ماذا سيقول؟ المسألة ليست مسألة ساعة ولا ساعتين، بل عشرات الساعات تضيع بين الفينة والأخرى، وبين مجلس وآخر، وبين حادثة عن فلان وحادثة عن علان، وأحاديث في الدنيا.
ماذا سيقول ابن عقيل لو عاش بيننا؟ وهو الذي يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري.
وقد ألف كتاباً اسمه الفنون، وهو يقع في ثمانمائة مجلد، لو وضعتها في بيتك لامتلأت مكتبتك، وابن القيم ألف كتاباً سماه زاد المعاد، هذا الكتاب الآن عمدة لكثير من الناس في السيرة والتاريخ والفقه يرجع إليه كثير من أهل العلم وطلبة العلم، سماه زاد المعاد وهو مكون من خمس مجلدات، يزيد أو ينقص بحسب الطبعات، لقد ألفه وهو في السفر على الراحلة!! هؤلاء كان لهم هم، وعندهم هدف من حياتهم، يعيشون لغاية، أما أكثر الناس في هذا الزمن، تسأله: لم تعيش؟ فيقول لك: لا أدري
يا أخي! لماذا أنت حي؟ لماذا تأكل وتشرب وتبقي على صحتك وجسمك؟ يقول: لا أدري، أعيش من أجل أن أعيش، وآكل وأشرب من أجل أن أعيش.
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
ولماذا لست أدري؟ لست أدري!
ما يدري لماذا يعيش؟ وأين المصير؟ ولمَ خلقه الله جل وعلا؟ شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي ما ولدت النساء مثله، هذا الرجل ألف كتاباً بطلب من قضاة واسط، سماه العقيدة الواسطية، وهو الآن عمدة لطلبة العلم في العقيدة، ويدرس في الدورات العلمية ولطلبة الجامعات الإٍسلامية، ولا يتخرجون إلا بعد أن يتموا هذا الكتاب، ويختبرون فيه، أتعرف كم جلس يؤلف هذا الكتاب؟ لقد ألفه في جلسة بين صلاة العصر والمغرب! أرأيت إلى بركة الوقت عندهم وحرصهم على العلم؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
شيخ الإسلام ابن تيمية كان طالباً صغيراً، وسمع به العلماء فجاءه عالم إلى دمشق، يسأل عن هذا الطفل الصغير النابغة الذي تميز في صغره، فقال لأهل بلده: أين هذا الشباب الذي يسمى أحمد؟ قالوا: تقصد ابن تيمية قال: نعم.
قالوا: ماذا تريد منه؟ قال: سمعت أن له شأناً في العلم، فأريد أن أختبره -شيخ يريد أن يختبر هذا الصبي- فقال له البائع الذي سئل: اجلس وسوف يمر إلى الكتاب من هذا الطريق.
وبعد قليل مر صبي صغير بيده لوح يحمله، فقال البائع للشيخ: هذا صاحبك، هذا الذي تبحث عنه.
فناداه الشيخ فلما جاءه قال له: أنت أحمد بن تيمية؟ قال: نعم.
قال أعطني لوحك، فأخذ الشيخ اللوح، فكتب فيه بضعة عشر حديثاً، ثم قال: اقرأ.
فقرأ بأحسن ما يكون، ثم قال: هات اللوح، فأخذ اللوح ومسحها وقال: أعد ما قرأته، فقرأها شيخ الإسلام مرتبة كما قرأها من قبل، لم ينقص حرفاً واحداً، فعجب الشيخ منه، وعلم أن له شأناً ليس كالصبيان، وعقلاً ليس كالعقول، وكأن الله عز وجل أراد أن يجدد للأمة دينها بهذا الصبي ثم أخذ اللوح مرة أخرى وكتب أسانيد: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، عن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بضعة عشر سنداً، وقال: اقرأ، فقرأه كأحسن ما يكون، ثم مسحها وقال: أعدها عليّ.
فأعادها ولم ينقص منها حرفاً أعرفت كيف كانوا يحفظون أوقاتهم؟!
أخي العزيز!
إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنينا بها وأجعلها في صلاح وطاعة