للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النموذج الرابع: أبو يوسف]

اسمع إلى الرابع وهو عجيب: اسمه أبو يوسف! مَن أبو يوسف؟ ومَن منكم لا يحدث عن أبي يوسف يعقوب؟ صاحب أبي حنيفة، لما كان صبياً توفي أبوه ولا عذر لليتيم في طلب العلم، توفي أبوه، وكانت أمه تغزل وتجمع المال، فقالت لولدها: يا بني! اذهب إلى هذا القصار (رجل ينظف الثياب) حتى تتكسب، أنت يتيم وليس عندك مال، فكان يذهب إلى القصار، ترسله إلى القصار فعندما تذهب أمه يهرب إلى أين؟ إلى الملعب إلى الشوارع إلى النوادي؟ أو يتجول في الأسواق؟ لا، إنه أبو يوسف يفر إلى حلقة أبي حنيفة، فيجلس ويكتب العلم ويحفظ معه، وكان أبو حنيفة يعجب به ويقدمه على غيره؛ لحرصه على العلم، فتبعته أمه يوماً وقد علمت أنه يهرب، فدخلت عليه في مجلس أبي حنيفة فقالت لـ أبي حنيفة، وتَخَيَّلْ! هذا المنظر دخلت الأم وكانت تجر الولد ويأتي مرة ثانية وتجر الولد -في الحلقة- ويهرب مرة ثانية يأتي إلى الحلقة، انظروا الإصرار والهمة العالية، فأتت إلى الشيخ يوماً من الأيام، فقالت لـ أبي حنيفة: ما أعلم لهذا الصبي فساداً غيرك، أنت الذي أفسدت علي هذا الصبي، إنه صبي يتيم ليس معه شيء، وأنا أنفق عليه بمغزلي، فاتركه يعمل ويتكسب له شيئاً ينتفع به، فنظر إليها أبو حنيفة، وقال: اذهبي يا رعناء فها هو ذا يأكل الفالوذج بدهن الفستق، الفالوذج أغلى أنواع الطعام حتى الأمراء لا يأكلونه إلا القليل، فقالت المرأة الأم: أما أنت فشيخ قد خرفت فذهب عقلك وتَرَكَتْه وذهبت.

قال أبو يوسف: فمرت الأيام -انظروا الهمة العالية كيف يستغل الإنسان وقته- يقول: فكان أبو حنيفة يعطيني من ماله ولا يترك حاجة إلا أعطاني إياها، ومكث ينفق علي حتى فتح الله علي في العلم، وصرت قاضياً، وكنت أدارس هارون الرشيد الخليفة، فأجلس معه على مائدة واحدة، وفي يوم من الأيام قال لي هارون الرشيد: تقدم يا يعقوب وكل من هذا الطعام؛ فإنه لا يكون لنا في غير هذا اليوم مثله، فقال: وما هذا الطعام؟ فقال هارون الرشيد: هذا فالوذج بدهن الفستق، قال أبو يوسف: فضحكت، فقال لي الخليفة: وما أضحكك؟ فقلت: قصة حدثت، قال: فألح علي حتى أخبرته الخبر، فقال هارون الرشيد وكان رشيداً: إن هذا العلم والله لينفع في الدنيا والدين رحم الله أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه، فأكل الفالوذج بدهن الفستق، صبي صغير يهرب من أمه إلى أين يا غلام؟ إلى حلقة من حلقات العلماء والمشايخ يجلس ويكتب ويحفظ العلم ثم يرحل في سبيله.