[لا يستطاع العلم براحة الجسد]
لا يُستطاع العلم براحة الجسد فإذا كنت تريد أن تطلب العلم فنظم وقتك من الآن، فطالب العلم لا يصلح أن يطلب العلم ساعة واحدة، فهذا ليس بطالب علم، طالب علم ينام من الفجر إلى الظهر كيف سيطلب العلم؟! هذا سوف يطلب لكن بقدر ضعيف جداً طالب العلم لا يقضي ساعة على الأكل، ولا يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات يلعب ويلهو طالب العلم لا بد أن يتعب الجسد، فاللحم يذهب، والشحم يذهب، والعظام تتعب، والعين تحمرّْ أتريد أن تبلغ الدرجات العالية في العلم وأنت نائم على الفراش؟! تحضر درسين في الأسبوع وتسمي هذا طلب علم؟! يقول ابن أبي حاتم: كنا بـ مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل.
إذا أتى الليل نكتب ونقابل النسخ، يقول: فأتينا يوماً أنا ورفيقٌ لي شيخاً فقالوا: هو عليل.
-أي مريض- فرأينا سمكة فأعجبتنا فاشتريناها، وذهبنا إلى البيت لنأكل السمكة، فحضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن ثلاثة أيام ما عندهم وقت يشوون السمكة، هؤلاء هم طلبة العلم، أما طالب علم ويقول: مللت من الفراغ، ماذا أفعل بوقتي؟! ويفكر ما عنده شيء يقضي به الوقت، ويسمي نفسه طالب علم! يقول: ثلاثة أيام حتى كادت أن تنتن، فأكلناها نيئة، ولم نتفرغ نشويها.
ثم قالوا -اسمع إلى هذه الجملة واحفظها، وكلما تعب الجسد اذكر هذه الجملة- قالوا: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
فالذي ينام ويكثر من النوم اعلم أنه لن يبلغ من العلم مبلغاً عظيماً.
وقيل للشعبي -وهو أحد العلماء الحفاظ- قيل له: من أين لك هذا العلم كله؟ فقال: بدفع الاعتماد -ما يعتمد على غيره- والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد انظر إلى الجماد، هل يتعب أو يمل؟! فلو جلس في درس أربع ساعات، لم يقل: قد أطلت، وقد مللنا، ويقفل الكتاب، ويضع القلم، لا.
ولكن وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب.
أقول هذه الكلمة لمن يسهر طوال الليل ثم ينام عن الفجر، ولا يقوم إلا وقد ارتفعت الشمس، واحترت الأرض، أقول له: وبكور كبكور الغراب، أتريد الحفظ؟ عليك بأول النهار، أتريد العلم؟ عليك بأول النهار.
وسئل الطبراني عن كثرة حديثه، فقيل له: كيف تحدث كل هذه الأحاديث؟ فقال: كنت أنام على البواري -أي: على الحصير- ثلاثين سنة.
يقول: أتريدون أن تعرفوا هذا العلم الذي جمعتُه؟ إني كنت أنام على حصير ثلاثين سنة.
أما أن تريد أن تنام وأنت مرتاح وما تقوم إلى بعد أن شبعت من النوم، وما تجلس إلا في أفضل الأماكن، ولا تقرأ إلا أفضل الكتب، وأسهلها، وما تقرأ دقيقة إلا وترتاح عشر، فهكذا لن تتحصل على العلم أبداً.
ويقول مكحول الشامي -رحمه الله-: أُعتِقت بـ مصر كان عبداً وأُعتق بـ مصر، يقول: فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق سافر من مصر إلى العراق، لماذا يا إخوان؟ أللنزهة؟ أو لكي يسلم على فلان ويرجع؟ أو لكي يقضي الوقت؟ أو لكي يضيع الوقت؟ يقول: ثم ذهبت إلى العراق والمدينة، فلم أدع علماً إلا حويته فيما أرى.
انظروا إلى الهمة، وإلى الجد والاجتهاد! ليس مثل بعض الناس، يحضر درسين في اليوم، ويظن أنه يطلب علماً!! يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها.
أي: ما تركت مكاناً في الشام إلا وأتيته لطلب العلم.
فما الذي بقي بعد مصر والعراق والمدينة والشام؟!
وكان الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج وإيقاد السراج ليس بالأمر السهل في ذلك الزمن، بل كان يحتاج إلى وقت، وليس الأمر مثلما نحن عليه اليوم الضوء مباشرة، السراج يحتاج إلى وقت طويل حتى توقده، فليست شمعة توقدها مباشرة بـ (كبريت)، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره وهو نائم يفكر في فائدة وخاطرة علمية، فيقوم من النوم ويشعل السراج ويكتب الفائدة، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم أخرى وأخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه في الليلة الواحدة عشرين مرة، يقوم عشرين مرة حتى يكتب فائدة.
أما نحن اليوم فإننا نقول: عليك بالقيام لصلاة الفجر، فلو قمت لها لصلح حالك، ولا نأمرك بأن تقوم لفائدة، فهذا ليس فينا، إنما هو في الأسبقين.
وبعضهم كان يسافر الشهر ليسأل عن حديث واحد.
وبعضهم كان يسير على رجله أميالاً عديدة، حتى إن بعض العلماء كان يضع الكتب الثقيلة على ظهره ويسافر أميالاً عديدة، فلم يكن معهم طائرة، ولا سيارة، ولا وسائل عصرية حديثة، بل كان يمشي على رجله، والكتب على ظهره، ويسافر أميالاً عديدة حتى يسأل عن حديث واحد.
فقد سافر بعضهم إلى الشام وإلى بغداد، وهو يريد أن يسمع حديثاً من رجل، فلما أتاه سأل عنه فقيل له: قد نُعي قبل قليل، مات -أي: مات- فيبكى بكاءً شديداً؛ لأن ذلك العالم قد مات، ويقول: كادت مرارتي أن تنشق من الحسرة والندم كان يسافر أميالاً عديدة ليسأل عن حديث، وليسمع سنداً، وليسأل رجلاً.
وبعضهم كان يسير إلى مالك بن أنس أشهراً عديدة ليسأله بعض الأسئلة.
وهذا محمد بن إبراهيم آل الشيخ في هذا العصر، رحمه الله، أتعرفون كيف كان يقضي وقته؟ إن هذه السير والله ليست لأناس من حديد، ليست لأناس مخلوقين غير خلقنا، بل من لحم ودم وشحم، من أناس مثلي ومثلك، عندهم شعور، ويحتاجون إلى النوم والأكل والشرب والجماع والراحة.
محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كان يصلي الفجر ثم يجلس بعد الفجر فيدرس ثلاثة دروس في النحو، المستوى الأول، والمستوى الثاني، والمستوى الثالث، ثم بعد هذا كان يدرس الفقه، ثم الحديث، ثم يذهب إلى بيته، يلبث شيئاً قليلاً، ثم يرجع إلى المسجد، فيدرس، فيُقرأ عليه أمهات الكتب حتى قبيل صلاة الظهر، ثم يذهب إلى البيت، ثم يرجع لصلاة الظهر، وبعد صلاة الظهر يدرس حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يدرس التوحيد والفقه والحديث والنحو حتى المغرب، ثم بعد المغرب كان يدرس الفرائض حتى قبيل صلاة العشاء، وقبيل صلاة العشاء كان عنده درس عام في تفسير ابن كثير، ثم يصلي العشاء، وبعد العشاء يذهب إلى البيت ليستقبل الناس ويقضي لهم حوائجهم، وبعد ذلك يجلس مع أهله، ثم ينام فيستيقظ قبل الفجر ليقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويدعو، ثم يذهب إلى المسجد قبل الفجر وهكذا أربعين سنة.
هل هو من كوكب آخر؟! هل هو رجل وأنت لستَ برجل؟! هل هو مخلوق آخر؟! لا.
بل إن حاله كحالك، لكن رفع الله شأنه ورفع ذكره، لأنه كان يعرف كيف يقضي وقته، أما أنت فتحب الكسل والدعة والراحة والفتور.