قال الله عن فرعون:{آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:١٢٣] بدأ الآن يهدد، ماذا تريد يا فرعون؟ قال:{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:١٢٤] لا ينفع فيكم إلا التعذيب، سوف أصلبكم في جذوع النخل، وأقطع يد أحدكم ورجله حتى تموتوا {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}[طه:٧١] يظن أن عذابه أشد من عذاب الله، ويظن أن ألمه أشد من ألم حر جهنم!
فماذا قال السحرة؟ لقد كانوا قبل قليل يريدون أموالاً ومناصب، ويريدون التقرب والتزلف للحاكم، أما الآن فأجابوا {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ}[طه:٧٢] لن نحكمك، ولن نختارك يا فرعون:{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}[طه:٧٢] لقد رأينا البينات، قال بعض المفسرين: إنهم لما سجدوا كل واحد رأى منزله في الجنة، لأنهم سجدوا يقيناً بالله تبارك وتعالى، وأي إيمان هذا الإيمان أيها الإخوة! قبل قليل كانوا سحرة كفاراً طواغيت، وبعد قليل يؤمنون ويسجدون لله؛ فقد أروا مساكنهم في الجنة، فلما رفعوا رءوسهم قال: لأصلبنكم لأعذبنكم سأقطع الأيادي والأرجل، قالوا:{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}[طه:٧٢] وأقسموا على هذا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا}[طه:٧٢] أي: نقسم بالذي فطرنا على هذا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}[طه:٧٢] افعل يا فرعون ما تشاء عذب قطع الأيادي والأرجل اصلبنا على جذوع النخل، افعل ما تشاء:{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[طه:٧٢] مهما فعلت فإنها دنيا الله أكبر! أرأيت الإيمان إذا دخل في القلب كيف يستهين بالدنيا ويحتقرها! كيف تكون الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، قبل قليل يريدون المناصب والأموال والقربى، أما الآن فيقولون: هذه دنيا فانية {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}[طه:٧٣] يقال: إنه جمعهم منذ الطفولة وهم أيتام، وجاء بهم وعلمهم السحر منذ الصغر، حتى كبروا وترعرعوا على السحر، إكراه من فرعون، والويل لمن يخالف:{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:٧٣] ثم إذا بهم يتكلمون عن الجنة والنار.
وهل تظن -يا عبد الله- أن فرعون تركهم؟! لا.
بل نفذ ما وعدهم به، صلبهم على جذوع النخل، وقطع الأيادي والأرجل، وبعد قليل كما قال ابن عباس:[أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة].
عباد الله: أرأيتم إلى ذلك الموقف؛ موقف الداعية الثابت الصامد أنت لا تملك شيئاً، لا تملك إلا اللسان، والقلم، وهذا القلم وذلك اللسان يواجه تلك الجيوش الجرارة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:١٧] لا تقل: أنا ضعيف، وما عندي شيء، لا تقل: الدعاة إلى الله عزل، أقول لك: الدعاة إلى الله جلَّ وعلا معهم الرب تبارك وتعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}[الأنفال:١٢] يلقي الله عز وجل في قلوب أعدائهم الرعب ولا تقل: ما عندي جنود، ولا أسلحة، والمسلمون مستضعفون، واليهود والنصارى يقطعون في الأمة قطعاً ويمزقونهم تمزيقاً أقول لك: يا عبد الله! معك الرب جلَّ وعلا، إن موسى ما كان يملك إلا العصا وأمامه ألوف السحرة، وفرعون وما أدراك ما فرعون، ولكن نصره الله جل وعلا بم ذلك؟ بيقينه بالله تبارك وتعالى، وثقته بنصر الله جل وعلا.