[كلام الإمام أحمد في الزهد والرقائق]
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري عن عبد الله بن أحمد السمرقندي قال سمعت إبراهيم بن سفيان يقول: سمعت أبا عصمة بن عاصم البيهقي يقول: بت ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه -إذا رأى الإمام أحد طلبة العلم يأتي ينام عنده جاءه بالماء فوضعه عنده، حتى يقوم الليل؛ لأن قيام الليل عندهم أمر بديهي، ونحن عندنا صلاة الفجر صعبة وقد ننام عنها أو نؤخرها في بعض الأيام، ومع ذلك نلتمس الأعذار لأنفسنا- فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: -سبحان الله- رجل يطلب العلم لا يكون له ورد من الليل، كيف تطلب العلم، وتطلب دراسة الشريعة والفقه ولا يكون لك ورد في الليل؟
ويقول ابن المديني رحمه الله تعالى: ودعت أحمد بن حنبل فقلت له: توصيني بشيء يا أبا عبد الله؟
فقال: نعم، اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.
ولا يحتاج إلى كلام أكثر من العبارة هذه، سطر واحد فيه كل التقوى، والورع، والخوف، والزهد، وانقضاء الأمل، والدنيا.
وقال يحيى الجلاب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عزيز عليَّ أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت قلوبهم القرآن.
أناس حفظوا القرآن ثم يموتون، ما يخلفهم بعدهم أحد، وفعلاً كلنا يشعر بهذا، عندما أصبحت معارك الردة بين المسلمين والكفار ومات كثير من حفاظ القرآن، خاف المسلمون على القرآن فجمعوه، والآن كم واحد فينا في المسجد هنا يحفظ القرآن يا إخواني؟ قليل جداً، نحفظ قال فلان وحدثنا فلان، نحفظ مصطلح الحديث، وكلام الله سبحانه وتعالى نغفل عنه كثيراً، ويمكن أن الواحد فينا لا يحفظ في اليوم آية، كلنا يا إخواني كلنا مقصرين، لذلك قالوا: الذي يحفظ كل يوم ثلاثة آيات على مدار خمس سنوات يحفظ القرآن كله، والذي يحفظ ست آيات يومياً يحتاج إلى سنتين ونصف ليحفظ القرآن الكريم.
انظروا يا إخواني المسألة سهلة؛ لكن بهمة ومصابرة ومتابعة، وعلى حسب نفسيات الناس.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي يوماً: أوصني يا أبي؟ فقال: يا بني انو الخير، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.
انو إذا كان عندك ألف دينار أن تتبرع بها كلها للمسلمين وللفقراء وللمحتاجين، لكن اصدق النية لعلَّ الله عز وجل برحمته أن يكتبها لك ويحسبها لك، ماذا خاسر أنت؟
وقال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل وسئل: بم بلغ القوم حتى مدحوا؟ أي: العلماء الذين نتكلم عنهم لماذا يمدحهم الناس؟ فقال: الصدق مع الله، ويعني بالصدق هنا: الإخلاص لله رب العالمين.
يقول: أبو بكر نفسه: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن لكل شيء كرماً، وكرم القلب الرضا عن الله عز وجل.
وقال محمد بن إسماعيل بن العلاء: حدثني أبي قال: دعاني رزق الله الكلواني، فقدم إلينا طعاماً كثيراً، وذكر نوع الطعام، فقال أحد الجالسين -معهم يحيى بن معين وأبو خيثمة وجماعة، فقدم لهم طعاماً ثميناً، وأحمد بن حنبل جالس- فقال رجل من الجالسين: والله لقد أسرفت في الطعام، فقال أحمد بن حنبل: لا.
والله، لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في بغداد لقمة ثم أخذها امرئ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفاً، فقال له يحيى: صدقت يا أبا عبد الله.
قوة العلاقة بالإخوة، لو أن الدنيا كلها جمعتها كأنها لقمة ووضعتها في فم أخيك المسلم ما أنت بمسرف، لأن حق المسلم على المسلم قوي، وللمسلم على المسلم حقوق وردت في أحاديث كثيرة جداً.
أحمد بن حنبل مربٍ كبير يعلم الناس، اسمع هذه القصة كيف يربي ويوجه الناس:
كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل، وكان ممن يمارس المعاصي والقاذورات، جاء يوماً إلى مجلس أحمد بن حنبل فسلم عليه، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، يعني: أحمد بن حنبل ما رد عليه رد كامل ليحسسه بعيبه من عمل المعاصي، إنما هو ليس راض عليه أن يعمل هذه المعاصي وهذه القاذورات، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ فإني قد انتقلت عما كنت تحذره مني برؤيا رأيتها -يقول: أنا تركت المعصية، وتركت الشيء الذي كنت تحسبني مداوماً عليه في المعاصي برؤيا رأيتها في المنام، والآن يقص الرؤيا التي رآها الرجل في المنام اسمع معي- فقال الإمام أحمد رضي الله عنه: وأي شيء رأيت؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي أو بصورتي).
قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض، وناس كثير أسفل جلوس، قال: فيقوم رجل منهم إليه فيقول له: ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه، استحييت من النبي من المعاصي التي كنت أفعلها، فقال: يا فلان! لم لا تقوم إلي تسألني أن أدعو لك؟
قلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه، قال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، قال: فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، قال: فقال الإمام أحمد بن حنبل: يا جعفر، يا فلان، يا فلان من طلبة العلم حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع.
حادثة جميلة يستأنس بها وتثار بين الناس، لعل فيها عبرة.