للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجرأة في عرض الحق والمواجهة]

الميزة الثانية: وهي من المميزات العظيمة جداً: الجرأة في عرض الحق والمواجهة:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه الناس فما كان يخجل، ولا كان والله يطأطئ رأسه ويخفي بعض المبادئ، فالإسلام كله كان يعرضه على المشركين، قبلوا أو لم يقبلوا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:١ - ٢] جرأة ومواجهة، بل وقف على الصفا عليه الصلاة والسلام قال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟! فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١]) فالأمر فيه جرأة.

قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس فأسلم بعض الصحابة، وكان بعضهم يريد أن يكون جريئاً في الدعوة، كـ أبي ذر، فقام، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخرج) فخرج، ونطق بها صريحة أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فضرب حتى كان كأنه تمثال أحمر من الدم، رضي الله عنه جرأة إعلان مواجهة، لا نقول: مواجهة بالسلاح، ما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ أما الكلام فهو المواجهة وهو الصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤] قال ابن الزبير (كان أشراف قريش يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً، يقولون: والله ما رأينا مثل محمد، سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آلهتنا -نعم ما كان يجامل، وما كان يماري، وما كان يداهن، هذه الأصنام في النار أنتم وهي، إن متم على هذا الشرك أنتم وهذه الأصنام كلكم في النار، ما كان يداهن- يقول ابن الزبير -واسمع لتلك القصة-: فخرج عليهم عليه الصلاة والسلام يوماً وكانوا جالسين في المجلس -أشراف قريش عند الكعبة- يقول: فذهب إلى الركن فاستلم الركن فطاف حول البيت -لعل سائلاً يسأل: كيف يطوف والأصنام حول البيت؟ ما كان يبالي عليه الصلاة والسلام، فهو يعبد الله، فأخذ يطوف- فلما طاف الشوط الأول ومر عليهم غمزوه -تكلموا عليه، فلم يبال- فطاف الشوط الثاني، فغمزوه، ثم طاف الشوط الثالث فغمزوه، فأقبل عليهم عليه الصلاة والسلام -ترك الطواف- فقال: تسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -انظر المواجهة- يقول الصحابي: والله حتى ما كان أحد منهم إلا كأن طائراً واقع على رأسه -كل واحد من المشركين تجمد- يقول: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -يعني: إما الدين وإما الذبح والقتل- فيقول الصحابي: حتى كان أشدهم فيه وطأة -يعني: أشدهم أذى للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً -انصرف- فوالله ما كنت جهولاً) انظروا! جرأة!

لأنه يا إخوان إذا كان المسلم جريئاً يعرض الحق بجرأة ويواجه الناس: هذا منكر وهذا معروف، لا يخجل ولا يجامل ولا يداهن، لو كان صاحب الدين وصاحب العلم في كل مجلس إن رأى منكراً قال: اتق الله هذا منكر -طبعاً بالحكمة ما نقول: بسفاهة لكنه جريء- لو كان في كل مجلس، في السوق مثلاً، في الديوانية، في الجامعة، في الدوام، كل من رأى منكراً، حاول تغييره، وعلم الناس أن هذا منكر، لما كان هذا الوضع الذي نحن فيه، حتى يستحي بعض الملتزمين أن يظهر الإسلام في بعض الأماكن، انظروا ماذا حدث في الأندلس كيف اندثر شيء اسمه إسلام! الآن تذهب إلى أسبانيا ما تتوقع أن هذه بلد خرَّجت علماء، وحكمها الإسلام لقرون طويلة، بل كان خليفة المسلمين فيها.

ما أحد كان يظن هذا الأمر، من يذهب إلى أسبانيا ما يظن بأن الأمر نقصته الجرأة والمواجهة.

كان عمر رضي الله عنه فتىً جريئاً، عندما أسلم ذهب أمام المشركين فأعلن إسلامه، وعندما هاجر كان الصحابة يهاجرون مستخفين، أما عمر رضي الله عنه فلا، فقد أخبر كل المشركين أنه سوف يهاجر، أي: الذي عنده شيء يفعله، انظر المواجهة.

وأبو بكر كان جريئاً يا إخوان، ما كانت القضية في الدعوة المكية كما يقول بعض الناس: السرية والخوف والخجل وإخفاء ما عندك من المبادئ والدين، وكتِّم، لا يا إخوان، بل الأمر يحتاج إلى جرأة، تكتب في الصحافة، تتكلم في التلفاز، تكون جريئاً، تتكلم في المسجد، والسوق، تكلم حتى صاحب المنكر، تأتيه وتكلمه بينك وبينه، تقول: هذا منكر، هذا لا يجوز، حتى في السيارة، توقفها وتقول: يا أخي اتق الله.

أين الجرأة؟ افتقدها أكثر الدعاة.

أبو بكر رضي الله عنه من جرأته ما كان يصلي في بيته، خرج خارج البيت وجعل له مصلى، فأخذ يصلي في المصلى خارج البيت والناس يمرون حوله، وأخذ يبكي رضي الله عنه، تخيل أبا بكر يبكي، الناس ماذا يفعلون؟ يأتون يستمعون إليه، ماذا يفعل هذا الرجل؟ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، والأغراب يأتون فينظرون من هذا الرجل؟ ماذا يفعل؟ إنه يصلي يسجد ويركع ويتلو القرآن وهو يبكي في الصلاة، إنها جرأة -والله- نحتاج إليها.

عمر وحمزة عندما أسلما أخذ كل واحد منهم عشرين رجلاً وعملوا مظاهرة، شبه مظاهرة، خرجوا أمام المشركين بأربعين رجلاً، وأخذوا يمرون على المشركين، كل منهم عنده عشرون رجلاً فقط، يمرون أمام المشركين، ليعلم كل الناس أن هذا الدين باقٍ، لأن بعض الناس -يا أخي- ضعيف الإيمان، يخاف إن أسلم أنه سوف يفقد منصبه، سوف يضيع هذا الحزب الذي يتبعه، سوف تضعف مكانته، يستهزئ الناس به ويسخرون منه، سوف يكون -كما نقول- ذليلاً بين الناس، يخاف، لكنه لو يرى المسلمين جريئين أقوياء، والله يسلم كل الناس، ويتبع الناس هذا الدين.

عمر رضي الله عنه كان جالساً بعد الفجر بعدما أسلم -انظروا القوة في الدين- فأتاه المشركون فأخذوا يتعرضون إليه ويرد عليهم، ويسبونه، وهو يدفعهم، فاجتمع المشركون على عمر، وعمر كلنا يعلم من هو عمر، كان إذا ضرب أوجع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، كان رجلاً، فأخذ يدفع الناس ولم يسكت، بعض الناس يظن أن من الحكمة أنه إذا يُضرب يسكت، وأن الدين يُسب ويُشتم العلماء ويُستهزأ بسنة سيد المرسلين، ويظن أن من الدين أن يقول: جزاك الله خيراً، لا هذا ليس من الدين، هذا من الذلة، الدين أن تقول له: اتق الله هذا لا ينفع، هذا دين، تكلم فِيَّ وفي أي واحد، أما في الدين فانتبه.

عمر أخذ يُضرب ويُشتم ويُدفع، فأخذ عمر رضي الله عنه يضربهم، يقول الراوي والأثر صحيح ثابت، يقول: [حتى ارتفعت الشمس وهو يدفعهم -من الفجر، وهو يدفعهم رضي الله عنه- حتى جلس من شدة التعب -انظر الآن يدفعهم، ربما ساعات طويلة وهو يدفعهم عنه، حتى جلس من شدة التعب، فأجاره رجل من المشركين، وعندما ابتعدوا عنه أخذ يناديهم -الآن تعب الجسد لكن بقي اللسان، وفيه القوة والعزة، قال: يا أعداء الله -هو الآن يكاد يقتل، ثم يخاطبهم بهذه اللهجة- يقول: يا أعداء الله! والله لو بلغنا فيها ثلاثمائة لأخرجناكم منها] لو كنا في مكة ثلاثمائة لطردناكم من مكة كلكم، انظروا الجرأة، انظروا المواجهة، والله نحتاجها في هذه الأيام.

هذه الميزة الثانية، ولعلنا أطلنا فيها.