[تربية النفس على مراقبة الله جل وعلا]
المقام الثاني من مقامات العبودية: مقام المراقبة: اسمع إلى الإمام أحمد أتاه رجل فقال له: يا إمام! سمعت أحد الناس يقول شعراً، قال: ما هو؟ فأخبره بالشعر، فأغلق الإمام أحمد الكتاب، ثم دخل الغرفة وأغلق على نفسه الباب، فانتظره الناس فاستبطئوه، ثم جاءوا عند باب الغرفة، واستمعوا ماذا يقول فسمعوه يردد الشعر وهو يبكي أتعرف ما هو هذا الشعر؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
وأخذ يبكي الإمام أحمد ويردد تلك الأبيات، فإذا جئت في الليل، وأغلقت الباب، وأطفأت الأضواء، وبدأت تعصي الله؛ لا تقل: خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:١٤] ألا تعلم -يا عبد الله- أن الله يراك؟! يطلع عليك وأنت في هذه الحال!
هذا عمر بن الخطاب يمر على بيوت الناس، فإذا به يستمع إلى صوت يخرج من بيت صوت من؟ صوت امرأة في بيتٍ لوحدها أتعرف ما قصة هذه المرأة؟ هذه المرأة خرج زوجها للجهاد أشهراً عديدة ومديدة ولم يرجع، ونحن نعلم -يا عباد الله- أن المرأة تشتهي، ولا يرد هذه المرأة شيء ما الذي يردها عن الحرام؟ لكن أتعرف ما الذي ردها؟ أخذت هذه المرأة تقول شعراً وعمر بن الخطاب يستمع إليها، تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
لِمَ يا عبد الله؟ لأن هذه المرأة في قلبها إيمان بأن الله عز وجل يراقبها ويطلع عليها: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:١٠] الله يعلم المستخفي في الظلمات وهو ينظر لها ويكلمها ويداعبها ويضاحكها؛ بل لعله يزني بها -أجلكم الله- فهو في علم الله ولو كان مستخفياً في الليل أو سارب بالنهار، أي: مجاهر بالنهار.
عبد الله: راقب الله جل وعلا، ولا تظن أنك عندما تختلي أنه لا أحد يراك، أبو جهل حارب النبي عليه الصلاة والسلام وصد عن سبيل الله، أتعرف بم رد الله عز وجل عليه؟!
قال لـ أبي جهل ولأمثاله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:١٤] ألا يعلم هذا الكافر الفاجر أن الله يراه؟! والله لو علم حق العلم أن الله يراه ومطلع عليه ما تجرأ على هذه المعصية، ولما تجرأ على أن ينتهك حرمات الله جل وعلا!
عبد الله: إذا أردت أن تربي هذه النفس على العبادات؛ فأكثر من العبادات، واستمع إلى سلفنا كيف كانوا يعبدون الله جل وعلا، كان الواحد يقضي وقته بالعبادة من قيام وصيام وقرآن وذكر وعبادة مطلقة، اسمع لهذه المواقف:
صعدت جاريتان -بنتان صغيرتان- على سطح المنزل، وكانتا لا تصعدان إلا في الليل تعرف لِمَ؟ لأن الليل يستر الناس، وكان من حياء الجاريتين أنهما لا تصعدان إلا وقت الليل، فصعدتا على سطح المنزل، فنظرتا إلى بيت الجيران، ثم نزلتا فقالتا لأمهما: أين العمود -عمود الخشب- الذي كان في بيت جارنا؟ قالت الأم: ليس ذلك بعمود، إنما هو منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، كانتا تظنان أنه عمود واقف في بيت الجيران تعرف لِمَ يا عبد الله؟ من طول قنوته وقيامه، تعال إلى كثير من المسلمين بل حتى الصالحين منهم متى قمت الليل متى كان آخر مرة؟ يقول لك: منذ رمضان!
عبد الله! رجل صالح، عابد لله، لكنه لا يقوم الليل ولا مرة في الأسبوع أو الشهر، فكيف يريد أن يربي نفسه على عبادة الله جل وعلا؟ كيف يريد أن يذلل نفسه لله جل وعلا؟
انظر إلى الله عز وجل ماذا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:١ - ٢] قم الليل كله، ثم قال: إلا قليلاً {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:٤] نعم! بماذا يقوم؟ {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:٤] لِمَ يا رب هذا القيام؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:٥] وننصح الدعاة إلى الله جل وعلا بقيام الليل لأنك سوف تجد أمراً ثقيلاً، فاستعين بالعبادة على الأمر الثقيل: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:١٥٣].
سفيان -عليه رحمة الله- أتعرف كيف كان يقوم الليل، وكيف كان يتعبد الله جل وعلا؟
أيها الإخوة! الواحد فينا يضحك ويحتقر نفسه أنه يصلي الصلوات الخمس، ويتنفل باثنتي عشرة ركعة، ويوتر قبل أن ينام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن أحدكم يجر على وجهه في سبيل الله) هل أحد منا يجر على وجهه في سبيل الله؟ يقول: (منذ أن ولد إلى أن يموت) تخيل إنسان هذه عبادته منذ ولادته يجر على وجهه إلى أن يموت، كل هذا في سبيل الله، قال: (لحقره يوم القيامة) لأتى يوم القيامة واحتقر عمله كله.
أخي الكريم! انظر لعبادتك كم هي؟ حتى إن الواحد ينسى منذ متى قام الليل أو صام التطوع، بل متى ختم القرآن، بل منذ متى هلل مائة مرة بعد صلاة الفجر؟
عبد الله! لنعرف أنفسنا ولنقدر أنفسنا حقها.
كان سفيان -عليه رحمة الله- يقوم الليل، فإذا أذن الفجر وضع رجليه على الحائط لماذا؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه لليل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:٩] وهذه الآية نزلت في عثمان، يقول ابن عمر: [والله إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه] تعرف كيف كان فعله؟ {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:٩] وهو يقود أمة، خليفة من خلفاء المسلمين حينما وقعت الفتنة وحوصر جاءه الصحابة فقالوا له: ندفع عنك الثوار؟ قال: لا.
وفدى بنفسه لهذه الأمة؛ قال: اتركوهم.
قالوا: نقاتل معك؟ قال: لا تقتلوا أحدا، ً وكان في البيت يقرأ القرآن حتى يروى أنه كان يختم القرآن في ليلة، فكان يقرأ القرآن وزوجته عنده، فكسر الثوار الباب، ثم دخلوا عليه في البيت، ثم طعنوه تسع طعنات بخنجر، وتطاير الدم على المصحف، حتى قال هذا الشقي: أما ثلاث فلله -ثلاث طعنات- وأما الست فلشيء في نفسي! وكذب والله؛ فإن التسع كلها ليست لله جل وعلا، بل كلها لشيء في نفسه، فبكت زوجته ثم قالت: قتلتموه وإنه ليحيي الليل كله بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:٩] لِمَ كل هذا يا عثمان؟! لِمَ يا أبا بكر؟ لِمَ هذا يا عمر؟ ما الذي تفعله بنفسك يا علي لِمَ كل هذا؟ {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩].
عبد الله: سل نفسك: هل يسمع القرآن في بيتك؟
هل إذا جاء الليل توقظ الزوجة لقيام الليل؟
سلي نفسك يا أمة الله: هل تقومين في الليل وتوقظين الزوج؟ (رحم الله رجلاً قام يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) هل نرى بيوتاً مثل هذه البيوت؟ تمر في الليل فتسمع الزوج يقرأ والزوجة تصلي وراءه قيام الليل؟ هل هذه البيوت موجودة؟ هل بيتك هكذا؟ حتى إن بعض بيوت السلف كان لا يمر عليهم دقيقة في الليل إلا وأحدهم يصلي.
كما يذكرون أن بيتاً كان فيه أم وابنيها، وكانوا صالحين، وكانوا يجزئون الليل ثلاثة أجزاء، ثلث يقوم هذا، وثلث يقوم هذا، وثلث تقوم الأم، فلما ماتت الأم جزءوا الليل نصفين كل واحد يقوم نصف الليل، فلما مات أحدهما كان الآخر يقوم الليل كله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:٩] هذا هو العلم ليس العلم أن نحفظ مسائل فقط، ليس العلم أن ندرس كتباً فقط ثم لا نقوم الليل، ولا نصوم النهار، ولا تدمع العين، ولا نرفع اليد ندعو الله جل وعلا.
اسمع إلى مسروق -عليه رحمة الله- هذا الرجل كان يقوم الليل وتجلس زوجته خلفه تبكي رأفة لحاله من شدة قيامه لليل، تقول: فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف الصبي:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا عبد الله! الذي يخذل في قيام الليل، وفي صلاة الفجر، يخذل في الجهاد في سبيل الله.
اسمع لـ ابن المبارك، أحد المجاهدين، تعال إليه في الليل! إذا نام الناس قام إلى الفجر يصلي، فإذا أصبح الصباح رفع السلاح مجاهداً في سبيل الله، هذه هي العبادة يا عباد الله! ليس أننا أمام الناس صالحين، وأمام الناس ساجدين راكعين، فإذا جئنا في البيت، وإذا جن الظلام، وإذا نزل الرب إلى السماء الدنيا لا تجد من يقوم لله جل وعلا، ولا تجد عبادة السر، ولا تجد صيام نافلة ولا قرآن ولا تدمع العين!
عبد الله: اسمع إلى زوجة رياح، وكان رجلاً صالحاً، فتزوج امرأة فكانت أصلح منه، فأراد أن يختبرها في ليلة العرس -ليلة الزواج- فنام الرجل، فلما نام قليلاً قامت الزوجة لتصلي في الليل، كانوا متعودين على القيام، قالت له: قم يا رياح وصلِّ؟ فقام فقال: لا زال في الوقت متسع، ثم نام وهي تصلي، ثم لما صلت شيئاً قليلاً، قالت له: قم يا رياح! فقام ثم قال: لا زال في الوقت متسع، وهو يختبرها، وهو أحد القائمين، الراكعين الساجدين، لكن أراد أن يختبر المرأة، ثم نام قليلاً حتى اقترب الفجر، قالت له: قم يا رياح فقال: لا زال في الوقت متسع، فلما أذن الفجر، قالت: قم يا رياح! فلما قام، قالت: ما الذي غرني بك يا رياح؟ ما الذي غرني برجل لا يقوم الليل إلا لصلاة الفجر.
عباد الله: هل هذه هي أحوالنا لا نقوم إلا لصلاة الفجر؟
هذا رجل قام لصلاة الفجر، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! فلان نام حتى الفجر- قام يصلي الفجر لكنه ما قام يصلي الليل -قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه).
لو جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظر إلى أحوال المسلمين حتى الفجر إلا من رحم الله ماذا سوف يقول؟! هل هي فقط قضية بال الشيطان في أذنه أم أن الأمر أخطر وأكبر؟